معروفاً} أي: عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته ونفرت منه لقبحه فهو منكر، وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك وإذا غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً، وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل له: عافانا الله وإياك بارك الله فيك. وقيل: لا يختص ذلك بالأولياء بل هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء قريب أو أجنبيّ رجل أو امرأة يعلم أنه يضيعه فيما لا ينبغي ويفسده.
﴿وابتلوا﴾ أي: اختبروا ﴿اليتامى﴾ في دينهم وتصرفهم بأن تختبروا ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوّام بها، والمرأة فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرّة ونحوها وحفظ متاع البيت، وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدّة في خبز وماء ولحم ونحوها، كل ذلك على العادة في مثله، ويشترط تكرار الاختبار مرّتين أو أكثر بحيث يفيد غلبة الظنّ برشده، ووقت الاختبار قبل البلوغ ولا يصح عقده بل يمتحن في المماكسة فإذا أراد العقد عقد الوليّ ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ أي: صاروا أهلاً له إمّا بالسنّ وهو استكمال خمس عشرة سنة تحديدية لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنه: «عرضت على النبيّ ﷺ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت»، رواه ابن حبان وأصله في الصحيحين وابتداؤها من انفصال جميع الولد، قيل: عرض عليه ﷺ سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة فلم يجزهم وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم.
وإما بخروج المنيّ في وقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تحديدية سواء أخرج في نوم أم يقظة بجماع أو غيره وتزيد المرأة على هذين الأمرين الحيض لوقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تقريبية فيغتفر فيها زمن لا يسع حيضاً وطهراً، والولادة لأنها يسبقها الإنزال ويحكم بالبلوغ قبلها بستة أشهر وشيء وإنبات شعر العانة الخشن دليل للبلوغ في حق الكفار لا في حق المسلمين ولا عبرة بإنبات شعر الإبط واللحية.
﴿فإن آنستم﴾ أي: أبصرتم ﴿منهم رشداً﴾ وهو صلاح الدين والمال، أما صلاح الدين فلا يرتكب محرّماً يسقط العدالة من كبيرة أو إصرار على صغيرة ويعتبر في رشد الكافر دينه، وأما صلاح المال فلا يضيعه بإلقائه في بحر أو يصرفه في محرم، أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملة ونحوها، وليس صرفه في الخير بتبذير ولا صرفه في الثياب والأطعمة النفيسة وشراء الجواري والاستمتاع بهنّ؛ لأنّ المال يتخذ لينتفع به، نعم إن صرفه في ذلك بطريق الاقتراض له حرم عليه ﴿فادفعوا إليهم أموالهم﴾ من غير تأخير ﴿ولا تأكلوها﴾ أيها الأولياء وقوله تعالى: ﴿إسرافاً﴾ أي: بغير حق ﴿وبداراً﴾ حالان أي: مسرفين ومبادرين إلى إنفاقها مخافة ﴿أن يكبروا﴾ رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم ﴿ومن كان﴾ من الأولياء ﴿غنياً فليستعفف﴾ أي: يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله ﴿ومن كان فقيراً فليأكل﴾ منه ﴿بالمعروف﴾ أي: بقدر الأقلّ من حاجته وأجرة سعيه كما مرّ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الوليّ له حق في مال الصبي.
وروى النسائيّ وغيره أنّ رجلاً قال للنبيّ ﷺ إنّ في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف».
عليهم وإنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرّية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاث بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرّية أولئك. قال البقاعي: لأنّ الصحيح أنّ من كان معه من غير ذرّيته ماتوا ولم يعقبوا ولم يقل ذرّية نوح ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح حثاً على الاقتداء به في التوحيد كما اقتدى به آباؤهم في ذلك بقوله تعالى: ﴿إنه كان عبداً شكوراً﴾ أي: مبالغاً في الشكر الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه لما خلق له. روي أنه عليه الصلاة السلام كان إذا أكل قال: «الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني» وفي رواية «أنه يسمي إذا أكل ويحمد إذا فرغ، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حداني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه». وفي رواية أنه كان يقول: «الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفعته في جسدي وأخرج عني أذاه». وفي رواية: أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من مرّ به فإن وجده محتاجاً آثره به. ولما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد بقوله تعالى:
﴿وقضينا﴾ أي: أوحينا ﴿إلى بني إسرائيل﴾ أي: إلى بني عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه وحياً مقطوعاً مثبوتاً ﴿في الكتاب﴾ أي: التوراة التي قد أوصلناها إليهم على لسان موسى عليه السلام وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: ﴿لتفسدنّ﴾ جواب قسم محذوف ويجوز أن يجري القضاء المثبوت مجرى القسم فيكون لتفسدنّ جواباً له كأنه قال: وأقسمنا لتفسدنّ ﴿في الأرض﴾ أي: أرض الشام قاله السيوطي. وقال الرازي: أرض مصر ويوافق الأوّل قول البقاعي أي: المقدّسة التي كأنها لشرفها هي الأرض. ﴿مرّتين﴾ أي: إفسادتين. قال في «الكشاف» : أولاهما قتل زكريا عليه السلام وحبس أرميا حين أنذرهم بسخط الله تعالى، والأخرى قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى بن مريم. وقال البيضاوي: الأولى مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا أو قتل أرميا. وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام. ﴿ولتعلنّ﴾ أي: بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم ﴿علوّاً كبيراً﴾ بالظلم والتمرّد لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم ﴿فإذا جاء وعد أولاهما﴾ أي: أولى مرّتي الفساد وهو الوقت الذي جدّدنا لهم الانتقام فيه ﴿بعثنا عليكم عباداً لنا﴾ أي: لا يدان لكم بهم كما قال تعالى: ﴿أولي بأس شديد﴾ أي: أصحاب قوّة في الحرب. واختلف فيهم فقال في «الكشاف» : سنحاريب وجنوده، وقيل بختنصر. وقال ابن عباس: جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً. وقال البيضاوي: عباداً لنا بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده، وقيل: جالوت الحزري وهو بحاء فزاي: مفتوحتين فراء نسبة إلى الحزر وهو ضيق العين وصغرها، وهو الذي قتله داود أو جيل من الناس. وذكر الرازي في ذلك قولين: الأوّل: أنّ الله تعالى سلط عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب
فضل داود عليه السلام لأن قوله تعالى ﴿ولقد آتينا داود منا فضلاً﴾ مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتى الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل: أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى ﴿يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان﴾ (التوبة: ٢١) فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى ﴿يا جبال﴾ محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدراً، ويكون بدلاً من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً قولنا يا جبال، وإن شئت قدرته فعلاً وحينئذ لك وجهان: إن شئت جعلته بدلاً من آتينا معناه آتينا قلنا: يا جبال، وإن شئت جعلته مستأنفاً ﴿أوبي﴾ أي: رجّعي ﴿معه﴾ بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل: التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه يقول: أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب: نوحي معه وقيل: سيري معه وقوله تعالى ﴿والطير﴾ منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه: أحدها: أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً لأن كل منادى في موضع نصب. الثاني: أنه عطف على فضلاً قاله الكسائي، ولابد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتسبيح الطير. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل أي: وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو.
تنبيه: لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون: كان داود عليه الصلاة والسلام إذ نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل: كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح، وقيل: كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له. وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال سبحي، وللطير أجيبي، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه، وذلك كما: «كان الحصى يسبح في كف نبينا ﷺ وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» وكما: «كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل»، وكما: «كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه»، و «حنين الجذع مشهور»، وكما: «كان الضب يشهد له» و «الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه» ونحو ذلك، وكما: «جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها، فأمره النبي ﷺ برده رحمة لها».
ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى: ﴿وألنا له الحديد﴾ أي: الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة، وذلك في قدرة الله تعالى يسير، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج
وجهان: أحدهما: أنه مجرور عطفاً على الأميين، أي: وبعث في الآخرين من الأميين، أي: الموجودين والآتين منهم بعدهم ﴿لما﴾ أي: لم ﴿يلحقوا بهم﴾ في السابقة والفصل والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي: ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون، وكل من تعلم شريعة محمد ﷺ إلى آخر الزمان فرسول الله ﷺ معلمه بالقوة، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
تنبيه: الذين لم يلحقوا بهم هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال عمر وسعيد بن جبير: هم العجم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «كنا جلوساً عند النبي ﷺ إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ: ﴿وآخرين منهم لما يلحقوا بهم﴾ قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي ﷺ حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: «فوضع النبي صلى الله علية وسلم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء» وفي رواية «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس» أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله. وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني: من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد ﷺ وقال ابن زيد، ومقاتل بن حبان: هم من دخل في الإسلام بعد النبي ﷺ إلى يوم القيامة.
وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي ﷺ قال «إن في أصلاب أمتي رجالاً ونساء يدخلون الجنة بغير حساب، ثم تلا ﴿وآخرين منهم لما يلحقوا بهم﴾ » قال ابن عادل: والقول الأول أثبت. وروي أن النبي ﷺ قال: «رأيتني أسقي غنماً سوداً، ثم أتبعتها غنماً عقراً أولها يا أبا بكر، قال: يا نبي الله أما السود فالعرب، وأما العقر فالعجم تتبعك بعد العرب، فقال النبي ﷺ كذلك أولها الملك يعني جبريل عليه الصلاة والسلام» رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي ﷺ وهو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ أي: الذي يقدر على كل ما أراده، ولا يغلبة شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أي طائفة كان، ولو كان أجهل أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده ﴿الحكيم﴾ فهو إذاً أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها، فلا يستطاع نقضه ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطاق ردة بوجه.
ولما كان هذا أمراً باهراً عظمه بقوله تعالى على وجه الاستثمار من قدرته:
﴿ذلك﴾ الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه، وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف ﴿فضلُ الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرص ﴿يؤتيه من يشاء﴾ قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش، وقال الكلبي: يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء، وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.
وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم


الصفحة التالية
Icon