أي: ومن لم يقدر على مهر الحرّة المؤمنة أي: أو الكتابية كما مرّ فليتزوّج الأمة المؤمنة، وظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرّة ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقاً، وأوّل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه طول المحصنات بأن يملك فراشهنّ على أنّ النكاح هو الوطء وحمل قوله: (من فتياتكم المؤمنات) على الأفضل كما حمل عليه قوله: (المحصنات المؤمنات).
ومن أصحابنا من حمله أيضاً على التقييد وجوّز نكاح الأمة لمن قدر على الحرّة والكتابية دون المؤمنة حذراً من مخالطة الكفار وموالاتهم، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد؛ ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين، وأمّا وطؤها بملك اليمين فجائز باتفاق.
فائدة: قوله تعالى: ﴿فمن ما ملكت﴾ من مقطوعة عن ما ﴿وا أعلم بإيمانكم﴾ أي: بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه فإنه العالم بالسرائر ﴿بعضكم من بعض﴾ أي: أنتم وإماؤكم سواء في النسب والدين نسبكم من آدم ودينكم الإسلام فلا تستنكفوا من نكاحهنّ ﴿فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ﴾ أي: مواليهنّ ﴿وآتوهنّ أجورهنّ﴾ أي: أدوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ فحذف بإذن لتقدّم ذكره، أو أدوا إلى مواليهنّ فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد؛ لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدّى إليه، وقال مالك: المهر للأمة ذاهباً إلى ظاهر الآية ﴿بالمعروف﴾ أي: من غير مطل ولا ضرار وقوله تعالى: ﴿محصنات﴾ أي: عفيفات حال من ضمير فانكحوهنّ وهو محمول على الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني ﴿غير مسافحات﴾ أي: زانيات جهراً ﴿ولا متخذات أخدان﴾ أي: أخلاء يزنون بها سراً جمع خدن وهو الصديق في السر، وقيل: المسافحات اللاتي يزنين مع أي رجل، وذوات الأخدان اللاتي يزنين مع معين وذلك بحسب ما كان في الجاهلية.
﴿فإذا أحصن﴾ قرأ شعبة وحمزة والكسائي أحصن بفتح الهمزة والصاد على البناء للفاعل أي: تزوّجن والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول أي: زوّجن، ﴿فإن أتين بفاحشة﴾ أي: زنا ﴿فعليهنّ نصف ما على المحصنات﴾ أي: الحرائر الأبكار إذا زنين ﴿من العذاب﴾ أي: الحدّ فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهنّ العبد.
فإن قيل: ما فائدة وجوب تنصيف الحدّ عليهنّ بتقييده بتزوّجهنّ إذ تنصيف العذاب لازم للأمة الزانية تزوّجت أم لا؟ أجيب: بأنّ فائدة ذلك بيان أن لا رجم عليهنّ أصلاً وبأنه إنما ذكر لبيان جواب سؤال إذ الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوا مقدار حد الأمة قبل التزوّج دون مقداره بعده، فسألوا عنه النبيّ ﷺ فنزلت الآية، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوّج من المماليك إذا زنا أخذاً بظاهر الآية.
وروي أنه ﷺ قال: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحدّ ولا يثربن عليها ثم إن عادت فليجلدها الحد ولا يثربن عليها، فإن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» ﴿ذلك﴾ أي: نكاح الإماء عند عدم الطول {لمن
قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات لا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك على سبيل الابتداء. وفي الأمثال المشهورة أنّ البادئ بالبرّ لا يكافأ.
ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السنّ قال تعالى: ﴿إما﴾ مؤكداً بإدخال ما على إن الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الوالدين ﴿يبلغن عندك الكبر﴾ أي: كأن يضطرا إليك في حالة الضعف والعجز فلا يكون لهما كافل غيرك فيصيرا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوّله ﴿أحدهما أو كلاهما﴾. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الغين وكسر النون فالألف ضمير الوالدين لتقدّم ذكرهما وأحدهما بدل منه أو كلاهما عطف عليه فاعلاً أو بدلاً. فإن قيل: هلا كان كلاهما توكيداً لا بدلاً أجيب: بأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيد الاثنين فوجب أن يكون مثله. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون أحدهما بدلاً وكلاهما توكيداً ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل؟ أجيب: بأنّ العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل، وقرأ الباقون بغير ألف وفتح النون والإعراب على هذا ظاهر، وجميع القرّاء يشدّدون النون.
ثم أنه تعالى أمر الإنسان في حق والديه بخمسة أشياء: الأوّل منها قوله تعالى: ﴿فلا تقل لهما أفّ﴾ أي: لا تتضجر منهما قال الزجاج: أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله ﴿فلا تقل لهما أف﴾ أي: لا تتقذرهما كما أنهما كانا لا يتقذران منك حين كنت تخرأ وتبول.
وفي رواية أخرى عن مجاهد إذا وجدت منهما رائحة توذيك ﴿فلا تقل لهما أفّ﴾ فلقد بالغ سبحانه وتعالى بالوصية بهما حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخِّص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة وقد قال ﷺ «إياكم وعقوق الوالدين فإنّ الجنة يوجد ريحها مع مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زانٍ، ولا جارّ إزاره خيلاء، إن الكبرياء لله رب العالمين». وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال: لا يقوم إلى خدمتهما عن كسل. وقرأ نافع وحفص بالتنوين في الفاء مع الكسر وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسر الفاء من غير تنوين.
الثاني قوله تعالى: ﴿ولا تنهرهما﴾ أي: لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى: ﴿وأمّا السائل فلا تنهر﴾ (الضحى، ١٠)
. فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بالأولى فما فائدة ذكره؟ أجيب: بأن المراد بالمنع من التأفيف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير والمراد من منع الانتهار المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليهما والتكذيب لهما.
الثالث قوله تعالى: ﴿وقل لهما قولاً كريماً﴾ أي: حسناً جميلاً طيباً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أن يقول يا أبتاه يا أمّاه. وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وعن عطاء أنه قال: هو أن يتكلم معهما بشرط أن لا يرفع إليهما بصره
وطول من التربص، ومثل هذه الحال دل عليها قوله عز من قائل ﴿رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً﴾ (النبأ: ٣٧ ـ ٣٨)
كأنه قيل: يتوقعون ويتربصون ملياً فزعين ذاهلين حتى إذا فزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن ﴿قالوا﴾ أي: قال بعضهم لبعض ﴿ماذا قال ربكم﴾ أي: في الشفاعة ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن بذلك قلوبهم ﴿قالوا﴾ قال: القول ﴿الحق﴾ أي: الثابت الذي لا يمكن أن يبدل، بل يطابق الواقع فلا يكون شيء يخالفه وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى منهم وهم المؤمنون ﴿وهو العلي الكبير﴾ أي: ذو العلو فلا رتبة إلا دون رتبته والكبرياء، فليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء صفقت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ﴿ماذا قال ربكم﴾ قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء» وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر وتكلم بالوحي أخذت السماء رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل: فيقول جبريل عليه السلام ﴿قال الحق وهو العلي الكبير﴾
فيقولون كلهم مثل ما يقول جبريل عليه السلام، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله تعالى»
وقال مقاتل والكلبي والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل: ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً، فلما بعث الله تعالى محمداً ﷺ كلم جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد ﷺ فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمداً ﷺ عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ﴿ماذا قال ربكم قالوا الحق﴾ يعني الوحي ﴿وهو العلي الكبير﴾ وقال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة عليهم السلام: ماذا قال ربكم في الدعاء قالوا: الحق فأقروا به حيث لم ينفعهم الإقرار.
ولما سلب تعالى عن شركائهم
ومات.
ولما كان ﷺ يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، قال تعالى منبهاً على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون:
﴿سواء عليهم أستغفرت لهم﴾ استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل ﴿أم لم تستغفر﴾ الله ﴿لهم﴾ أي: سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدّون به لكفرهم ﴿لن يغفر الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿لهم﴾ لرسوخهم في الكفر ﴿إن الله﴾ أي: الذي له كمال الصفات ﴿لا يهدي القوم﴾ أي: الناس الذين لهم قوّة في أنفسهم على ما يريدونه ﴿الفاسقين﴾ أي: لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق، وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرّة بعد مرّة، والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق، والخروج عن مظنة الإصلاح.
﴿هم﴾ أي خاصة بخالص بواطنهم ﴿الذين يقولون﴾ أي: أوجدوا هذا القول للأنصار، ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير ﴿لا تنفقوا﴾ أي: أيها المخلصون في النصرة ﴿على من﴾ أي: الذين ﴿عند رسول الله﴾ أي: الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين ﴿حتى ينفضوا﴾ أي: يتفرّقوا فيذهب كل أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك.
قال البقاعي: وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله تعالى غيرهم للإنفاق، أو أمر رسول الله ﷺ فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد، أو أعطى كلاً يسيراً من طعام على كيفية لا ينفد معها كتمر أبي هريرة، وشعير عائشة، وعكة أمّ أيمن وغير ذلك كما روى غير مرّة، ولكن ﴿من يضلل الله فما له من هاد﴾ (الزمر: ٢٣)
ولذلك عبر في الردّ عليهم بقوله تعالى: ﴿ولله﴾ أي: قالوا ذلك واستمرّوا على تجديد قوله، والحال أنّ الملك الذي لا أمر لغيره ﴿خزائن السموات﴾ أي: كلها ﴿والأرض﴾ كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدوره، ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ (يس: ٨٢)
ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها، حتى مما في أيديهم لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يده غيره.
ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم: إن كان محمد صادقاً فنحن شرّ من البهائم بقوله تعالى: ﴿ولكن المنافقين﴾ أي: العريقين في وصف النفاق ﴿لا يفقهون﴾ أي: يتجدّد لهم فهم أصلاً كالبهائم بل هم أضل، لأنّ البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرّة ما أخرج الله تعالى من خوارق البركات على يد رسوله ﷺ فلم ينفعهم ذلك، ودل على عدم نفعهم بقوله تعالى:
﴿يقولون﴾ أي: يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره ﴿لئن رجعنا﴾ أي: أيتها العصابة المنافقة ﴿إلى المدينة﴾ أي: من غزاتنا هذه، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ﴿ليخرجنّ الأعز﴾ يعنون أنفسهم ﴿منها﴾ أي: المدينة ﴿الأذل﴾ يعنون النبيّ ﷺ وأصحابه، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين ﴿وله﴾ أي: والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده


الصفحة التالية
Icon