خشي} أي: خاف ﴿العنت﴾ أي: الزنا، وأصله المشقة سمي به الزنا؛ لأنه سببها بالحدّ في الدنيا أو العقوبة في الأخرى ﴿منكم﴾ أيها الأحرار بخلاف من لم يخفه أمّا العبيد فيجوز لهم نكاح الإماء مطلقاً لكن إن كان العبد مسلماً فلا بد أن تكون الأمة مسلمة ﴿وإن تصبروا﴾ عن نكاح الإماء متعففين ﴿خير لكم﴾ لئلا يصير الولد رقيقاً، وعن النبيّ ﷺ «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» ﴿وا غفور﴾ لمن لم يصبر ﴿رحيم﴾ بأن وسع له في ذلك ﴿يريد الله ليبين لكم﴾ شرائع دينكم ومصالح أموركم ﴿ويهديكم﴾ أي: يرشدكم ﴿سنن﴾ أي: شرائع ﴿الذين من قبلكم﴾ من الأنبياء في التحريم والتحليل فتتبعوهم ﴿ويتوب عليكم﴾ أي: ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ﴿وا عليم﴾ بكم ﴿حكيم﴾ فيما دبره لكم.
﴿والله يريد أن يتوب عليكم﴾ إن وقع منكم تقصير في دينه ﴿ويريد الذين يتبعون الشهوات﴾ قال السدي: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المجوس؛ لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت فلما حرمهنّ الله قالوا: فإنكم تحلون بنات الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت، وقال مجاهد: هم الزناة ﴿أن تميلوا﴾ أي: تعدلوا عن الحق ﴿ميلاً عظيماً﴾ بارتكاب ما حرم عليكم فتكونوا مثلهم.
﴿يريد الله أن يخفف عنكم﴾ أي: يسهل عليكم أحكام الشرع، وقد سهل كما قال تعالى: ﴿ويضع عنهم إصرهم﴾ (الأعراف، ١٥٧)
وقال ﷺ «بعثت بالحنيفية السمحة» أي: السهلة ﴿وخلق الإنسان ضعيفاً﴾ لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات، وعن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ثمان آيات في سورة النساء خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس وغربت، (يريد الله ليبين لكم) (والله يريد أن يتوب عليكم) (يريد الله أن يخفف عنكم) (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) (إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة) (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) (ما يفعل الله بعذابكم).
﴿يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ أي: بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار والربا، وقوله تعالى: ﴿إلا أن تكون تجارة﴾ استثناء منقطع أي: لكن أن تقع تجارة على قراءة الرفع وهي قراءة غير عاصم وحمزة والكسائي وأمّا هؤلاء فقرؤوا بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي: إلا أن تكون الأموال تجارة ﴿عن تراض منكم﴾ أي: فلكم أن تأكلوها ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ أي: بارتكاب ما يؤدّي إلى هلاكها في الدنيا والآخرة، وقال الحسن: يعني إخوانكم أي: لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة.
روي أنّ رسول الله ﷺ قال: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة».
وروي أنّ الله تعالى يقول: «بادرني عبدي بنفسه فحرّمت عليه الجنة».
وعن عمرو بن العاص أنه تأوّله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه ﷺ ﴿إنّ الله كان بكم﴾ يا أمّة محمد ﴿رحيماً﴾ حيث أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.
﴿ومن يفعل ذلك﴾ أي: ما نهى عنه من قتل النفس وغيره من المحرمات،
ولا يشتد إليهما نظره وذلك أنّ هذين الفعلين ينافيان القول الكريم. فإن قيل: إبراهيم الخليل عليه السلام قال لأبيه: ﴿إني أراك وقومك في ضلال مبين﴾ مع أنه عليه السلام من أعظم الناس أدباً وحلماً وكرماً؟ أجيب: بأن حق الله تعالى مقدّم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى. والرابع قوله تعالى:
﴿واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة﴾ أي: لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة. قال القفال: وفي تقريره وجهان:
الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين. فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟ أجيب: بوجهين: الأوّل: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل، الثاني: أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله:
*وغداة ريح قد كشفت وقرة
... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً وللقرة زماماً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هنا ومن ظريف ما حكي أنّ أبا تمام لما نظم قوله:
*لا تسقني ماء الملام فإنني
... صبّ قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل بقصعة وقال له: اعطني شيئاً من ماء الملام فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل يريد أنّ هذا مجازاً استعاره لذلك وقال بعضهم:
*راشوا جناحي ثم بلوه بالندى
... فلم أستطع من حبهم أن أطيرا
الخامس قوله تعالى: ﴿وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً﴾ أي: لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فإنّ الدعاء لهما بالرحمة منسوخ بقوله تعالى: ﴿ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى﴾ (التوبة، ١١٣)
بل يدعو الله تعالى لهما بالهداية والإرشاد فإذا هداهما فقد رحمهما. وسئل بعضهم عن برّ الوالدين فقال: لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزراً ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا. وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما لما ورد عنه ﷺ أنه قال: «من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه».
تنبيه: قد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله من أحسن الناس بصحبتي؟ فقال: أمّك ثم أمّك ثم أبوك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك».
أن يملكوا شيئاً من الأكوان، وأثبت جميع الملك له وحده، وأمر نبيه محمداً ﷺ أن يقررهم بما يلزم منه ذلك بقوله تعالى:
﴿قل من يرزقكم من السموات﴾ أي: بالمطر ﴿والأرض﴾ أي: بالنبات، وأفرد الأرض لأنهم لا يعلمون غيرها، ثم أمره تعالى أن يتولى الإجابة بقوله تعالى: ﴿قل الله﴾ أي: إن لم يقولوا رازقنا الله تعالى فقل أنت: إن رازقكم الله وذلك للإشعار بأنهم يقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن من صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله تعالى رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿قل من يرزقكم من السماء والأرض﴾ (يونس: ٣١)
﴿أم من يملك السمع والأبصار﴾ (يونس: ٣١)
حتى قال: ﴿فسيقولون الله﴾ (يونس: ٣١)
ثم قال تعالى: ﴿فماذا بعد الحق إلا الضلال﴾ (يونس: ٣٢)
فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ومرة يتلعثمون عناداً وفراراً وحذراً من إلزام الحجة ونحوه قوله عز وجل ﴿قل من رب السموات والأرض قل الله أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً﴾ (الرعد: ١٦)
وأمر بأن يقول لهم بعد لاإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه ﴿وإنا أو إياكم﴾ أي: أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة ﴿لعلى هدى﴾ أي: في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه ﴿أو في ضلال﴾ عن الحق ﴿مبين﴾ أي: بين في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال، وهذا ليس على طريق الشك لأنه ﷺ لم يشك أنه على هدى ويقين، وأن الكفار على ضلال مبين وإنما هذا الكلام جار على ما تخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير، ويسميه أهل البيان الاستدراج، وهو أن يذكر لمخاطبه أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ونظيره قولهم: أخزى الله الكاذب مني ومنك، ومثله قول حسان رضي الله تعالى عنه يريد رسول الله ﷺ وأبا سفيان:

*أتهجوه ولست له بكفء فشر كما لخيركما الفداء*
*فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء*
مع العلم لكل أحد أنه ﷺ خير خلق الله كلهم.
تنبيه: ذكر تعالى في الهدى كلمة على، وفي الضلال كلمة في، لأن المهتدي كأنه مرتفع مطلع فذكر بكلمة التعالي فكأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فأتى بكلمة في فكأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه قال البغوي: وقال بعضهم: أو بمعنى الواو والألف فيه صلة كأنه يقول: وإنا وإياكم لعلى هدى وفي ضلال مبين يعني: نحن على الهدى وأنتم في الضلال.
﴿قل﴾ أي: لهم ﴿لا تسألون﴾ أي: من سائل ما ﴿عما أجرمنا﴾ أي: لا تؤاخذون به ﴿ولا نسأل﴾ أي: في وقت من الأوقات من سائل ما ﴿عما تعملون﴾ أي: من الكفر والتكذيب وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين، وقيل: المراد
﴿العزة﴾ أي: الغلبة كلها ﴿ولرسوله﴾ لأنّ عزتّه من عزته ﴿وللمؤمنين﴾ فعزة الله قهره من دونه، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم ﴿ولكن المنافقين﴾ أي: الذين استحكم فيهم مرض القلوب ﴿لا يعلمون﴾ أي: لا يوجد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف.
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته، وقال: أنت والله الذليل ورسول الله ﷺ العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب، وهو عبد الله غير رسول الله ﷺ اسمه، وقال «إن حباباً اسم شيطان» وكان مخلصاً، وقال: وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله ﷺ الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله ﷺ بتخليته. وروي أنه قال: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال: نعم، فلما رأى منه الجدّ، قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال النبي ﷺ لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً».
فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى: ﴿لا يفقهون﴾ وختم الثانية بقوله تعالى: ﴿لا يعلمون﴾ ؟.
أجيب: بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم، أو من فقه يفقه كعظم يعظم، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف، والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: أقروا بالإيمان، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم ﴿لا تلهكم﴾ أي: لا تشغلكم ﴿أموالكم ولا أولادكم﴾ سواء كان ذلك في إصلاحها، أو التمتع بها بحيث تغفلون ﴿عن ذكر الله﴾ أي: الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم ﴿لا تنفقوا على من عند رسول الله﴾ وقوله تعالى: ﴿عن ذكر الله﴾ قال الضحاك: أي: عن الصلوات الخمس، نظيره: قوله تعالى: ﴿لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ (النور: ٣٧)
وقال الحسن: عن جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة الله تعالى. وقيل: عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن، وقيل: عن إدامة الذكر، وقيل: هذا خطاب للمنافقين، أي: آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب.
ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى: ﴿ومن يفعل﴾ أي: يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل ﴿ذلك﴾ أي: الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي ﴿فأولئك﴾ البعداء عن الخير ﴿هم الخاسرون﴾ أي: العريقون في الخسارة في تجارتهم، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، حتى كأنهم مختصون بها دون الناس، وذلك بضد ما أرادوا.
﴿وأنفقوا﴾ أي: ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد زكاة الأموال، وهو ظاهر الأمر.
ثم إنّ الله تعالى زاد في الترغيب بالرضا منهم باليسير بقوله تعالى: ﴿مما رزقناكم﴾ أي: بعظمتنا. قال الزمخشري: من في ﴿مما رزقناكم﴾ للتبعيض، والمراد الإنفاق


الصفحة التالية
Icon