من المشركين أذى كثيراً قبل أن يهاجروا ويقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله ﷺ «كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم» ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾. فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم كما قال تعالى: ﴿فلما كتب﴾ أي: فرض ﴿عليهم القتال﴾ قرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم في الوصل، وأمّا الوقف فالجميع يسكنون الميم، وحمزة بضم الهاء على أصله، وكسرها الباقون ﴿إذا فريق منهم يخشون﴾ أي: يخافون ﴿الناس كخشية الله﴾ أي: كخشيتهم من الله ﴿أو أشدّ خشية﴾ من خشيتهم له.
تنبيه: نصب أشدّ على الحال، وجواب لما دل عليه إذا وما بعدها أي: فاجاءتهم الخشية ﴿وقالوا﴾ جزعاً من الموت ﴿ربنا لم كتبت علينا القتال لولا﴾ أي: هلا ﴿أخرتنا إلى أجل قريب﴾ وهو الموت أي: هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك فقيل: قاله قوم من المنافقين؛ لأن قوله: ﴿لم كتبت علينا القتال﴾ لا يليق بالمؤمنين؟ وقيل: قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفاً وجبناً لا اعتقاداً، ثم تابوا، وأهل الإيمان يتفاضلون فيه، وقيل: هم قوم كانوا مؤمنين فلما كتب عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد، وقرأ البزي في الوقف (لمه) بهاء بعد الميم بخلف عنه، والباقون بالميم بغير هاء والهاء ساقطة في الوصل للجميع ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿متاع الدنيا﴾ أي: ما يتمتع به فيها والاستمتاع بها ﴿قليل﴾ أي: آيل إلى الزوال ﴿والآخرة﴾ أي: ثوابها وهو الجنة والنظر إلى الله تعالى ﴿خير لمن اتقى﴾ عقاب الله بترك معاصيه.
روي أنه ﷺ قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» ﴿ولا تظلمون﴾ أي: تنقصون من أعمالكم ﴿فتيلاً﴾ أي: قدر ما يكون في شق النواة كما مرّ عن عكرمة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب، ونزل في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد ﴿لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا﴾ (آل عمران، ١٥٦).
﴿أينما تكونوا﴾ أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم ﴿يدرككم الموت﴾ أي: فإنه طالب لا يفوته هارب.
واختلف كتاب المصاحف في رسم أينما هنا فمنهم من كتب ما مقطوعة من أين ومنهم من وصلها ﴿ولو كنتم في بروج﴾ أي: حصون برج داخل برج أو كل واحد منكم داخل برج ﴿مشيدة﴾ أي: مرتفعة كل واحد منها شاهق في الهواء منيع فلا تخشوا القتال خوف الموت.
ونزل في اليهود لما قالوا حين قدم النبيّ ﷺ المدينة: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه ﴿وإن تصبهم﴾ أي: اليهود ﴿حسنة﴾ أي: خصب ورخص في السعر ﴿يقولون هذه من عند الله﴾ لنا لا مدخل لك فيها ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي: جدب وغلاء في الأسعار ﴿يقولون هذه من عندك﴾ أي: من شؤم محمد وأصحابه وقيل: المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة القتل والهزيمة يوم أحد، يقولون: هذه من عندك أي: أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا قول المنافقين ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿كل﴾ أي: الحسنة والسيئة ﴿من عند الله﴾ ثم عيرهم بالجهل فقال: ﴿فما لهؤلاء القوم﴾ أي: اليهود أو المنافقين {لا يكادون
أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا. فائدة: قال بعض العلماء: كانت إسراآته ﷺ أربعاً وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها قال ومما يدل على أنّ الإسراء ليلة فرض الصلاة كانت بالجسم ما ورد في بعض طرق الحديث أنه ﷺ استوحش لما زج به في النور ولم ير معه أحداً إذ الأرواح لا توصف بالوحشة ولا بالاستيحاش قال: ومما يدلك على أنّ الإسراء كان بجسمه ما وقع له من العطش فإنّ الأرواح المجردة لا تعطش، ولما كان ﷺ قد وصل الجحيم وأخبر ﷺ أنّ شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم وكان ذلك في غاية الغرابة ضمها إلى الإسراء في ذلك بقوله تعالى: ﴿والشجرة الملعونة في القرآن﴾ لأنّ فيها امتحاناً أيضاً بل قال بعض المفسرين هي على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. واختلف في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في قوله تعالى: ﴿إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم﴾ (الدخان: ٤٣، ٤٤)
فكانت الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أنّ أبا جهل قال: زعم صاحبكم أنّ نار جهنم تحرق الحجارة حيث قال: ﴿وقودها الناس والحجارة﴾ (البقرة، ٢٤)
ثم يقول في النار شجرة والنار تأكل الشجر فكيف يولد فيها الشجر. والثاني: قال ابن الزبعري: ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجراً ﴿إنا جعلناها فتنة للظالمين﴾ (الصافات، ٤٣)
الآيات ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ (الأنعام، ٩١)
من قال ذلك فإن الله تعالى قادر على أن يجعل الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقيت سالمة لا تعمل فيها النار، وترى النعامة تبلع الجمر وتبلع الحديد الحمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه تعالى جعل في الشجر ناراً فما تحرقه قال تعالى: ﴿الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً﴾ (يس، ٨٠)
. فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة؟ أجيب: عن ذلك بوجوه الأوّل المراد لعن الكفار الذين يأكلونها لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. الثاني: أنّ العرب تقول لكل طعام ضار إنه ملعون. الثالث: أنّ اللعن في اللغة الإبعاد ولما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير سميت ملعونة، وقيل إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: ﴿لعن الذين كفروا﴾ (المائدة، ٧٨)
الآية. وقيل: هي الشيطان. وقيل أبو جهل. وعن ابن عباس هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه يرسل بالآيات تخويفاً قال هنا أيضاً: ﴿ونخوّفهم فما يزيدهم﴾ أي: الكافرين والتخويف بالقرآن. ﴿إلا طغياناً كبيراً﴾ أي: تجاوز للحد هو في غاية العظم فبتقدير أن يظهر الله تعالى لهم المعجزات التي اقترحوها لم يزدادوا بها إلا تمادياً في الجهل والعناد فاقتضت الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات فإنهم قد خوّفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر، وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال
وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه.
ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى: ﴿وما يعمر من معمر﴾ أي: وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه فمعناه: وما يعمر من أحد، وفي عود ضمير قوله تعالى ﴿ولا ينقص من عمره﴾ قولان: أحدهما: أنه يعود على معمر آخر؛ لأن المراد بقوله تعالى: ﴿من معمر﴾ الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمراً استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال: لفلان عندي درهم ونصفه أي: نصف درهم آخر.
والثاني: أنه يعود على المعمر نفسه لفظاً ومعنى، والمعنى: أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر:
*حياتك أنفاس تعد فكلما | مضى نفس منك انتقصت به جزأ* |
وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله تعالى عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله فقيل لكعب: أليس قد قال الله تعالى ﴿فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ (الأعراف: ٣٤)
فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ هذه الآية وقد استفاض على الألسنة: أطال الله تعالى بقاءك، وفسح في مدتك وما أشبهه.
وعن سعيد بن جبير: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخره، وعن قتادة المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب في قوله تعالى ﴿إلا في كتاب﴾ أي: مكتوب فيه عمر فلان كذا وكذا، وعمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا إن لم يعمل كذا هو اللوح المحفوظ قاله ابن عباس، قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله تعالى أو صحيفة الإنسان.
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ولا يحصره الحد فكان في عداد ما ينكره الجهلة قال تعالى مؤكداً لسهولته ﴿إن ذلك﴾ أي: الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها ﴿على الله﴾ أي: الذي له جميع العزة ﴿يسير﴾ أي: هين. وقوله تعالى:
﴿وما يستوي البحران هذا عذب﴾ أي: طيب حلو لذيذ ملائم طبعه ﴿فرات﴾ أي: بالغ العذوبة ﴿سائغ شرابه﴾ أي: شربه مرئ سهل انحداره لما له من اللذة والملايمة للطبع ﴿وهذا ملح أجاج﴾ أي: جمع إلى الملوحة المرارة فلا يسوغ شرابه بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار
يضعن حملهن} وهذا على عمومه مخصص لآية ﴿يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً﴾ لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذاك في قوله تعالى: ﴿أزواجاً﴾ لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم وعموم أزواجاً بالعرض لأنه بدل لا يصلح لجميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ، والأول هو الراجح للوفاق، ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي ﷺ أن تتزوج.
تنبيه: إذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك، وقال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة: لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما، ولابد أن يكون الحمل منسوباً لذي العدة، أما إذا كان من زنا فلا حرمة له والعدة بالحيض.
ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة في غاية المشقة كرر بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك، وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه فقال عاطفاً على ما تقديره فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله تعالى عليه أموره: ﴿ومن يتق الله﴾ أي: يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته، اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي.
﴿يجعل له﴾ أي: يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى، إن الله لا يمل حتى تملوا ﴿من أمره﴾ أي: كله في النكاح وغيره ﴿يسراً﴾ أي: سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى، وقال مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه لطاعته.
﴿ذلك﴾ أي: الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب ﴿أمر الله﴾ أي: الملك الأعلى الذي له الكمال كله ﴿أنزله إليكم﴾ وبينه لكم ﴿ومن يتق الله﴾ أي: الذي لا أمر لأحدٍ معه في أحكامه فيراعي حقوقها ﴿يكفر﴾ أي: يغط تغطية عظيمة ﴿عنه سيئاته﴾ ليتخلى عن المبعدات، فإن الحسنات يذهبن السيئات ﴿ويعظم له أجراً﴾ بأن يبدل سيئاته حسنات، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم.
﴿أسكنوهن﴾ وقال الرازي: أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى: ﴿ومن يتق الله﴾ كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أسكنوهن.
وقوله تعالى: ﴿من حيث سكنتم﴾ فيه وجهان: أحدهما: أن من للتبعيض، قال الزمخشري: مبعضها محذوف، معناه: أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم كقوله تعالى: ﴿يغضوا من أبصارهم﴾ (النور: ٣٠)
أي: بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي: وقال الكسائي: من صلة، والمعنى: اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني: أنها لابتداء الغاية، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: والمعنى: تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم، ودل عليه قوله تعالى: ﴿من وجدكم﴾ أي: من وسعكم، أي: ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان: أحدهما: أنه عطف بيان لقوله تعالى: ﴿من حيث سكنتم﴾ وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل: أظهرهما أنه بدل من قوله ﴿من حيث﴾ بتكرار