النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله ﷺ أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدّاً والمراد من الآية التغليظ كقوله تعالى: ﴿وعلى الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين﴾ (آل عمران، ٩٧)
تفسير من كفر بمن لم يحج، وكقوله ﷺ للمقداد: «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن تقول الكلمة التي قال» أو إنّ هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله تعالى: ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء، ٤٨)
أو المراد بالخلود المكث الطويل فإنّ الدلائل متظاهرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم ولهذا لم يذكر في الآية أبداً، وما روي عن ابن عباس أنه قال: «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً» كما رواه الشيخان أراد به التشديد كما قاله البيضاويّ إذ روي عنه خلافه رواه البيهقي في سننه، وبينت آية البقرة إن قاتل العمد يقتل به وإنّ عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أنّ بين العمد والخطأ قتلاً يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالباً، فلا قصاص فيه بل فيه دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو أي: العمد أولى بالكفارة من الخطأ.
﴿يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم﴾ أي: سافرتم للجهاد ﴿في سبيل الله فتبينوا﴾.
روي أنّ سرية لرسول الله ﷺ غزت أهل فدك فهربوا وبقي رجل يقال له: مرداس، لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب رسول الله ﷺ فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير علم إنهم من أصحاب رسول الله ﷺ وكبر ونزل وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه فنزلت، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ وأخبروه فوجد رسول الله ﷺ من ذلك وجداً شديداً وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر فقال رسول الله ﷺ «قتلتموه إرادة ما معه» ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية على أسامة بن زيد فقال: يا رسول الله استغفر لي فقال: «وكيف بلا إله إلا الله؟» قال أسامة: فما زال رسول الله ﷺ يكرّرها عليّ حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم إنّ رسول الله ﷺ استغفر لي ثلاث مرّات وقال: أعتق رقبة»، وقال عكرمة عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله ﷺ ومعه غنم له فسلم عليهم قالوا: ما سلم عليكم إلا ليعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها رسول الله ﷺ فنزلت.
وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة وبالباء الموحدة مكان الياء المثناة تحت وبالتاء المثناة فوق مكان النون فهو من التثبت والباقون من البيان ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام﴾ أي: لمن حياكم بتحية الإسلام، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة بغير ألف بعد اللام من السلام أي: الاستسلام والانقياد والباقون بالألف ﴿لست مؤمناً﴾ وإنما فعلت ذلك متعوّذاً ﴿تبتغون عرض الحياة الدنيا﴾ أي: تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاد ﴿فعند الله مغانم كثيرة﴾ تغنيكم عن قتل مثله لماله ﴿كذلك كنتم من قبل﴾ أي: أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمة الشهادة فحصنتم بها أموالكم ودماءكم من غير أن تعلم
أي: الدار ﴿أعمى﴾ أي: ضالاً يعمل في الأفعال فعل الأعمى في أخذ الأعيان لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضرّه ولا يميز بين حسن وقبيح ﴿فهو في الآخرة أعمى﴾ أي: أشدّ عمى مما كان عليه في هذه الدار لا ينجح له قصد ولا يهتدي لصواب ولم يقل تعالى أشدّ عمى كما يقال في الخلق اللازمة لحالة واحدة مثل العور والحمرة والسواد ونحوها لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء. ﴿وأضلّ سبيلاً﴾ لأنّ هذه الدار دار الاكتساب والترقي في الأسباب، وأمّا تلك فليس فيها شيء من ذلك. وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها فقرؤوا: ﴿ربكم الذي يزجي لكم الفلك﴾ إلى قوله: ﴿تفضيلاً﴾. فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضلّ سبيلاً، وعلى هذا فالإشارة في قوله هذه إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدّمة، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر كما قال تعالى: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (الحجر، ١٢٦)
. وقال تعالى: ﴿ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً﴾ (الإسراء، ٩٧)
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم. ولما عدّد تعالى في الآيات المتقدّمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء عن الاغترار بوسواس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتلبيس فقال تعالى:
﴿وإن كادوا﴾ أي: قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله تعالى لك. ولما كانت إن هذه هي المخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية بقوله تعالى: ﴿ليفتنونك﴾ أي: ليخالطونك مخالطة تميلك إلى جهة قصدهم لكثرة خداعهم.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فروى عطاء عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله ﷺ وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال: وما هنّ قالوا أن لا نجبي في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة، أي: لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ ﷺ «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود». وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ﷺ ولم يجبهم فقالوا: يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ ﷺ فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله ﷺ قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وقال سعيد بن جبير: كان النبيّ ﷺ يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا: لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث ﷺ نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني
ولم ينتفعوا قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم بقوله تعالى:
﴿ألم تر﴾ أي: تعلم أي: أيها المخاطب ﴿أن الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿أنزل من السماء ماء﴾ كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره: اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر ما ذكره للأول، ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة، وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه؛ لئلا يسمع الأول كلام الآخر فيترك التفكر فيما كان وقوله تعالى ﴿فأخرجنا﴾ أي: بما لنا من القدرة والعظمة ﴿به﴾ أي: بالماء ﴿ثمرات﴾ أي: متعددة الأنواع، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان ذلك؛ لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء وقوله تعالى: ﴿مختلفاً﴾ نعت لثمرات وقوله تعالى: ﴿ألوانها﴾ فاعل به، ولولا ذلك لأنث مختلفاً، ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل جاز تذكيره، ولو أنث فقيل: مختلفة كما تقول: اختلفت ألوانها لجاز أي: مختلفة الأجناس من الرمان والتفاح والعنب وغيرها مما لا يحصر أو الهيئات من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر.
ولما ذكر تعالى تنوع ما من الماء وقدمه؛ لأنه الأصل في التكوين أتبعه التكوين من التراب الذي هو أيضاً شيء واحد بقوله تعالى ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التكوين: ﴿ومن الجبال جدد﴾ قال الجلال المحلّي رحمه الله تعالى: جمع جدة: طريق في الجبل وغيره وقال الزمخشري: الجدد الخطوط والطرائق، وقال أبو الفضل: الجدة ما تخالف من الطرائق لون ما يليها، ومنه جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه ﴿بيض وحمر﴾ وصفر وقوله تعالى ﴿مختلف﴾ صفة لجدد وقوله تعالى ﴿ألوانها﴾ فاعل به كما مر في نظيره، ويحتمل معنيين: أحدهما: أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرب أبيض أشد من أبيض وأحمر أشد من أحمر فنفس البياض مختلف وكذا الحمرة، فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكك. والثاني: أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة والبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محلهما.
وقوله تعالى ﴿وغرابيب سود﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه معطوف على حمر عطف ذي لون على ذي لون. ثانيها: أنه معطوف على بيض. ثالثها: واقتصر عليه الجلال المحلي أنه معطوف على جدد أي: صخور شديدة السواد قال الجلال المحلي: يقال كثيراً: أسود غربيب، وقليلاً غربيب أسود، وقال البغوي: أي: سود غرابيب على التقديم والتأخير يقال: أسود غربيب أي: شديد السواد تشبيهاً بلون الغراب أي: طرائق سود، وعن عكرمة: هن الجبال الطوال السود، وقال الزمخشري: الغربيب تأكيد للأسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد كقولك: أصفر فاقع، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده مفسراً لما أضمر كقوله النابغة الجعدي:
*والمؤمن العائذات الطير تمسحها | ركبان مكة بين الغيل والسغد* |
الله عنهما: أنه شربه عند سودة، وقيل: إنما هي أم سلمة رواه أسباط عن السدي، وقاله عطاء بن أبي مسلم.
تنبيه: شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما قولها: كان رسول الله ﷺ يحب الحلوى بالمد والقصر قاله في «المصباح»، وهو على كل شيء يحلو، وذكر العسل بعدها وإن كان داخلاً في جملة الحلوى تنبيهاً على شرفه ومرتبته، وهو من باب الخاص بعد العام. وقولها: فتواطيت أنا وحفصة هكذا وقع في الرواية، وأصله: فتوطأت بالهمز، أي: اتفقت أنا وحفصة. وقولها: إني لأجد منك ريح مغافير، هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء، وهو صمغ حلو كالناطف وله ريح كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز، وقيل: العرفط نبات له ورق يفرش على الارض له شوك وثمره خبيث الرائحة.
وقال أهل اللغة: العرفط من شجر العضاه، وهو كل شجر له شوك. وقيل رائحته كرائحة النبيذ، وكان النبي ﷺ يكره أن توجد منة رائحة كريهة.
قولها: جرست نحله العرفط بالجيم والراء وبالسين المهملتين، ومعناه: أكلت نحله العرفط فصار منه العسل.
قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، ذكره النووي في شرح مسلم، وكذا ذكره أيضاً القرطبي. وقال أكثر المفسرين في سبب نزول ذلك: «أن النبي ﷺ كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله ﷺ في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله ﷺ إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله ﷺ ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي، فقال ﷺ ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل ذلك أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي على فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً، ما كنت تصنع هذا بإمرأة منهن، فقال رسول الله ﷺ أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن، فلما خرج رسول الله ﷺ قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله ﷺ قد حرم عليه أمته مارية، وأن الله قد أراحنا منها، وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج رسول الله ﷺ فغضبت عائشة، فلم يزل نبي الله ﷺ حتى حلف أن لا يقربها».
وعن أنس بن مالك «أن رسول الله ﷺ كان له أمة يطؤها، فلم تزل عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى ﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك﴾ الآية» أخرجه النسائي.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿لم تحرم ما أحل الله لك﴾ يوهم أن الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي ﷺ ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟.
أجيب: بأنه ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل: تحريم ما أحل الله غير ممكن، فكيف قال ﴿لما تحرم ما أحل الله لك﴾ ؟ أجيب: بأن المراد بهذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، والنبي ﷺ امتنع من الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً، فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحل الله فقد كفر، فكيف