وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم النون من (نزل)، وضم الهمزة من (أنزل) وكسر الزاي فيهما، والباقون بفتح النون والهمزة وفتح الزاي فيهما ﴿ومن يكفر با وملائكته وكتبه﴾ التي أنزل على أنبيائه ﴿ورسله﴾ أي: من الملائكة والبشر ﴿واليوم الآخر﴾ أي: الذي أخبرت به رسله وهو يوم القيامة أي: ومن يكفر بشيء من ذلك ﴿فقد ضل ضلالاً بعيداً﴾ عن الحق بحيث لا يكاد يعود إليه، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام.
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي: بموسى وهم اليهود ﴿ثم كفروا﴾ حين عبدوا العجل ﴿ثم آمنوا﴾ بعد عود موسى إليهم ﴿ثم كفروا﴾ بعيسى ﴿ثم ازدادوا كفراً﴾ بمحمد ﷺ ﴿لم يكن الله ليغفر لهم﴾ أي: ما داموا على هذه الحالة؛ لأنه لا يغفر أن يشرك به ﴿ولا ليهديهم سبيلاً﴾ أي: طريقاً إلى الحق ﴿بشر المنافقين﴾ يا محمد ﴿بأنّ لهم عذاباً أليماً﴾ أي: مؤلماً هو النار.
تنبيه: وضع بشر مكان أنذر تهكماً بهم، وقوله تعالى:
﴿الذين﴾ بدل أو نعت للمنافقين ﴿يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين﴾ لما يتوهمون فيهم من القوّة وقوله تعالى: ﴿أيبتغون﴾ أي: أيطلبون ﴿عندهم العزة﴾ استفهام إنكاري أي: لا يجدونها عندهم ﴿فإن العزة جميعاً﴾ في الدنيا والآخرة ولا ينالهما إلا أولياؤه قال الله تعالى: ﴿والعزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ (المنافقون، ٨).
﴿وقد﴾ أي: تتخذونهم والحال أنه قد ﴿نزل عليكم﴾ أي: أيتها الأمّة الصادقين منكم والمنافقين ﴿في الكتاب﴾ أي: القرآن في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم ﴿أن﴾ أي: إنه فهي مخففة واسمها محذوف ﴿إذا سمعتم آيات الله﴾ أي: القرآن ﴿يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم﴾ أي: الكافرين والمستهزئين ﴿حتى يخوضوا في حديث غيره﴾ أي: حتى يأخذوا في حديث غير ذلك، قال الضحاك عن ابن عباس: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة، وقرأ عاصم: (نزل) بفتح النون والزاي، والباقون بضمّ النون وكسر الزاي ﴿إنكم إذاً﴾ أي: إن قعدتم معهم ﴿مثلهم﴾ أي: في الإثم؛ لأنكم قادرون على الإعراض عنهم والإنكار عليهم أو الكفر إن رضيتم به، وقيل: كان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون فقيل لهم: إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً﴾ أي: القاعدين والمقعود معهم كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء، وقوله تعالى:
﴿الذين﴾ إمّا بدل من الذين قبله، وإمّا صفة للمنافقين، وإمّا نصب على الذم منهم ﴿يتربصون﴾ أي: ينتظرون وقوع أمر ﴿بكم فإن كان لكم فتح من الله﴾ أي: ظفر وغنيمة ﴿قالوا﴾ لكم ﴿ألم نكن معكم﴾ أي: في الدين والجهاد فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة ﴿وإن كان للكافرين نصيب﴾ أي: من الظفر، فإنّ الحرب سجال، وعبر بنصيب تحقيراً لظفرهم بالنسبة لما حصل للمسلمين من الفتح ﴿قالوا﴾ لهم ﴿ألم تستحوذ﴾ أي: نستول ﴿عليكم﴾ ونقدر على أخذكم وقتلكم فأبقينا عليكم ﴿ونمنعكم من المؤمنين﴾ أي: من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرعبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد لتصديقهم لنا لإظهارنا الإيمان، ومراد المنافقين بذلك إظهار المنة على الكافرين ﴿فا يحكم بينكم﴾ وبينهم ﴿يوم القيامة﴾ بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً﴾ أي: طريقاً بالاستئصال، واحتج أصحابنا بهذه الآية عدلى فساد شراء الكافر العبد المسلم.
﴿إن المنافقين يخادعون الله﴾ أي: بإظهارهم خلاف ما يبطنونه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامهم الدنيوية ﴿وهو خادعهم﴾ أي: مجازيهم على خداعهم فيفضحهم في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبهم في الآخرة ﴿وإذا قاموا إلى الصلاة﴾ مع المؤمنين ﴿قاموا كسالى﴾ أي: متثاقلين كالمكرهين على الفعل ﴿يراؤن الناس﴾ بصلاتهم ليظنوهم مؤمنين ﴿ولا يذكرون الله﴾ أي: ولا يصلون ﴿إلا قليلاً﴾ أي: حين يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ولا يصلون غائبين قط عن عيون الناس وما يجهرون به أيضاً إلا قليلاً؛ لأنهم ما وجدوا مندوحة عن تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ويجوز أن يراد بالقلة العدم.
فإن قيل: أما معنى المراآة وهي مفاعلة من الرؤية؟ أجيب: بأنّ المرائي يريهم عمله وهم يرون استحسانه، وقوله تعالى:
﴿مذبذبين﴾ حال من واو يراؤن أي: مترددين ﴿بين ذلك﴾ أي: الكفر والإيمان ﴿لا﴾ منسوبين ﴿إلى هؤلاء﴾ أي: الكفار ﴿ولا إلى هؤلاء﴾ أي: المؤمنين ﴿ومن يضلل الله﴾ أي: يضله ﴿فلن تجد له سبيلاً﴾ أي: طريقاً إلى الهدى ونظيره قوله تعالى: ﴿ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور﴾ (النور، ٤٠)
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين﴾ أي: المجاهرين بالكفر ﴿أولياء من دون المؤمنين﴾ فإنه صنيع المنافقين وديدنهم فلا تتشبهوا بهم ﴿أتريدون أن تجعلوا عليكم﴾ أي: بموالاتهم ﴿سلطاناً﴾ أي: دليلاً على كفركم باتباعهم غير سبيل المؤمنين ﴿مبيناً﴾ أي: واضحاً على نفاقكم.
﴿إنّ المنافقين في الدرك﴾ أي: البطن ﴿الأسفل من النار﴾ أي: لأنّ ذلك أخفى ما في النار وأستره وأخبثه كما أنّ كفرهم أخفى الكفر وأخبثه وأستره وسميت طبقات النار دركات؛ لأنها متداركة متتابعة إلى أسفل كما إنّ الدرج متراقية إلى فوق.
فإن قيل: لم كان المنافق أشدّ عذاباً من الكافر؟ أجيب: بأنِه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الراء والباقون بفتحها ﴿ولن تجد لهم نصيراً﴾ أي: مانعاً يمنعهم من عذاب الله تعالى فيخرجهم ﴿إلا الذين تابوا﴾ أي: رجعوا عما كانوا عليه من النفاق ﴿وأصلحوا﴾ أي: أعمالهم ﴿واعتصموا﴾ أي: وثقوا ﴿با وأخلصوا دينهم﴾ من الرياء فلا يريدون بطاعتهم إلا وجهه تعالى ﴿فأولئك مع المؤمنين﴾ في الجنة ﴿وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً﴾ فيشاركونهم ويساهمونهم.
فإن قيل: من المنافق؟ أجيب: بأنه في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ كقوله ﷺ «من ترك الصلاة متعمّداً فهو كافر» ومنه قوله ﷺ «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وقيل لحذيفة رضي الله تعالى عنه: من المنافق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وقيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعده من النفاق.
فائدة: اتفق كتاب المصاحف على حذف الياء من ﴿يؤت الله﴾ ولا سبب لحذفها.
﴿ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم﴾ نعماءه ﴿وآمنتم به﴾ أي: لينفي به غيظاً أو يدفع ضراً
فقال: أليس قد قال الله تعالى: ﴿ورأى المجرمون النار﴾ (الكهف، ٥٣)
وقال تعالى: ﴿سمعوا لها تغيظاً وزفيراً﴾ (الفرقان، ١٢)
وقال تعالى: ﴿دعوا هنالك ثبوراً﴾ (الفرقان، ١٣)
وقال تعالى: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها﴾ (النحل، ١١١)
. وقال تعالى حكاية عن الكفار: ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ (الأنعام، ٢٣)
. فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال تعالى هنا: ﴿عمياً وبكماً وصماً﴾ ؟ أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأوّل: قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرّهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرّهم بكما لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر، أي: عما جعله الله تعالى لأوليائه وبكماً عن مخاطبة الله تعالى ومخاطبة الملائكة المقرّبين صماً عن ثناء الله تعالى عليهم. الثالث: قال مقاتل: إنه حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون يصيرون عمياً بكماً صماً، أمّا قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع: أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا لإلزام حجة الله تعالى عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله تعالى عمياً بكماً صماً. قال الرازي: والجواب الأول أولى لأنّ الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون. ثم بيّن تعالى مكانهم بقوله عز وجلّ: ﴿مأواهم جهنم﴾ تسعر عليهم ﴿كلما خبت﴾ أي: أخذ لهبها في السكون عند أكلها لحومهم وجلودهم ﴿زدناهم سعيراً﴾ توقد بإعادة الجلود واللحوم ملتهبة مسعرة كانهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله تعالى بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بإظهار تاء التأنيث عند الزاي وأدغمها الباقون. ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته بقوله تعالى:
﴿ذلك﴾ أي: العذاب العظيم ﴿جزاؤهم بأنهم﴾ أي: أهل الضلالة ﴿كفروا بآياتنا﴾ القرآنية وغيرها وكانوا كل يوم يزدادون كفراً وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا ﴿وقالوا﴾ إنكاراً لقدرتنا ﴿أئذا كنا عظاماً ورفاتاً﴾ ممزقين في الأرض ثم كرّروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم ﴿أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً﴾ فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرّر الخلق الجديد في جلودهم ولحومهم مكرّراً كل لحظة، قال تعالى: ﴿كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب﴾ (النسلء، ٥٦)
. ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم بقوله تعالى:
﴿أو لم يروا﴾ أي: يعلموا بعيون بصائرهم على ما هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل بصحته من الشواهد الجلائل ﴿أنّ الله الذي خلق السموات﴾ جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم تكن الأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجميع بقوله تعالى: ﴿والأرض﴾ على كبر أجرامها وعظم أحكامها، وقوله تعالى: ﴿قادر على أن يخلق مثلهم﴾ فيه قولان الأوّل: المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظة المثل كما يقوله المتكلمون أنّ الإعادة مثل الابتداء. الثاني: أنّ المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرّون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله تعالى: ﴿ويأت بخلق جديد﴾ (إبراهيم، ١٩)
. وقوله تعالى: ﴿ويستبدل قوماً غيركم﴾ (التوبة، ٣٩)
. قال الواحدي: والقول هو الأوّل لأنه أشبه بما قبله.
ولما بيّن الله تعالى بالدليل المذكور أنّ البعث والقيام أمر ممكن
الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين ﴿فهم مقمحون﴾ أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفتة إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطؤن رؤوسهم له، والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب إما لبرودة الماء، وإما لكراهة طعمه.
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال تعالى:
﴿وجعلنا﴾ أي: بعظمتنا ﴿من بين أيديهم﴾ أي: الوجه الذي يمكنهم عمله ﴿سداً﴾ فلا يسلكون طريق الاهتداء.
ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال تعالى ﴿ومن خلفهم﴾ أي: الوجه الذي هو خفي عنهم ﴿سداً﴾ فلا يرجعون إلى الهداية فصارت كل جهة يلتفتون إليها منسدة فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق، ولا الخلوص إليه، فلذلك قال تعالى ﴿فأغشيناهم﴾ أي: جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة ﴿فهم﴾ أي: بسبب ذلك ﴿لا يبصرون﴾ أي: لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم بصر ظاهر ولا بصيرة باطنة، وأيضاً الإنسان مبدؤه من الله تعالى ومصيره إليه فعمى الكافرين بأن لا يبصروا ما بين أيديهم من المصير إلى الله تعالى، وما خلفهم من الدخول في الوجود بخلق الله تعالى كمن أحاط بهم سد فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، وأيضاً فإن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، فإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامته هلك.
فإن قيل: ذكر السد من بين الأيدي ومن الخلف ولم يذكره من اليمين والشمال فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم، فيجعل الله تعالى السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله تعالى بين يديه سداً، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سداً بفتح السين في الموضعين وهو لغة فيه، والباقون بالضم.
ولما منعوا بذلك حس البصر أخبر عن حس السمع بقوله تعالى:
﴿وسواء عليهم﴾ أي: مستو ومعتدل غاية الاعتدال ﴿أأنذرتهم﴾ أي: بما أخبرناك به من الزواجر المانعة للكفر ﴿أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ ؛ لأنهم ممن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وقد سبق أيضاً في البقرة تفسيره والكلام على الهمزتين، ثم بين الله تعالى الأقل الناجي؛ لأنه المقصود بالذات بقوله تعالى:
﴿إنما تنذر﴾ أي: إنذاراً ينفع المنذر فتتأثر عنه النجاة ﴿من اتبع الذكر﴾ أي: القرآن بالتأمل فيه والعمل به ﴿وخشي الرحمن﴾ أي: خاف عقابه ﴿بالغيب﴾ أي: قبل موته ومعاينة أهواله أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه تعالى كما هو رحمن رحيم منتقم جبار ﴿فبشره﴾ أي: بسبب خشيته بالغيب ﴿بمغفرة﴾ أي: لذنوبه وإن عظمت وتكررت.
ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال تعالى ﴿وأجر كريم﴾ أي: هو الجنة فإنها دار لا كدر فيها بوجه، والمقصود منها هو النظر لوجهه الكريم، اللهم متعنا ومحبينا بالنظر إلى وجهك الكريم.
البصر} ﴿ينقلب إليك البصر﴾ ﴿من تفاوت﴾، أي: من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها وإن اختلف صورة، وقيل: المراد بذلك السموات خاصة، أي: ما ترى في خلق السموات من عيب وأصله من الفوت وهو: أن يفوت بعضها بعضاً فيقع الخلل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرّق، وقال السدي: أي من اختلاف وعيب يقول الناظر: لو كان كذا لكان أحسن، وقيل: المراد من التفاوت الفطور لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿فارجع البصر هل ترى من فطور﴾ ونظيره قوله تعالى: ﴿وما لها من فروج﴾ (ق: ٦) قال القفال: ويحتمل أن يكون المعنى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكم الصانع وأنه لم يخلقها عبثاً.
تنبيه: دلت هذه الآية على كمال علم الله تعالى، وذلك أن الحس دل على أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فلا بدّ وأن يكون عالماً فدلت الآية على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله تعالى: ﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت﴾ إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
وقرأ: ﴿ما ترى﴾ و ﴿هل ترى﴾ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح، وأدغم لام هل في التاء أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي، وقرأ من تفوت حمزة والكسائي بغير ألف بعد الفاء وتشديد الواو والباقون بألف بعد الفاء وتخفيف الواو.
وقوله تعالى: ﴿فارجع البصر﴾ مسبب عن قوله تعالى: ﴿ما ترى﴾ وقوله تعالى: ﴿هل ترى من فطور﴾ جملة يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه فارجع البصر، أي: فارجع البصر فانظر هل ترى، وأن يكون فارجع البصر مضمناً معنى انظر لأنه بمعناه فيكون هو المعلق.
والفطور جمع فطر وهو الشق يقال: فطره فانفطر، ومنه فطر ناب البعير كما يقال: شق ومعناه شق اللحم وطلع، قال المفسرون: الفطور: الصدوع والشقوق قال القائل:

*شققت القلب ثم ذرأت فيه هواك فليط فالتام الفطور*
﴿ثم ارجع البصر﴾ وقوله تعالى: ﴿كرتين﴾ نصب على المصدر كمرتين وهو مثنى لا يراد به حقيقته بل التكثير بدليل قوله تعالى: ﴿ينقلب إليك البصر خاسئاً﴾، أي: صاغراً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار ﴿وهوحسير﴾، أي: كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ولا ثلاث، وإنما المعنى: كرات، وهذا كقولهم: لبيك وسعديك وحنانيك ودواليك وهذاذيك؛ لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد إنما يريدون التكثير، أي: إجابة لك بعد إجابة وإلا لتناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة كقوله:
*لوعد قبر وقبر كنت أكرمه*
أي: قبور كثيرة ليتم المدح، وقال ابن عطية: كرتين معناه مرتين ونصبهما على المصدر. وقيل: الأولى: ليرى حسنها واستواءها، والثانية: ليبصر كواكبها في مسيرها وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط، وروى البغوي عن كعب أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة: صفر أو قال: نحاس، والخامسة: فضة، والسادسة: ذهب، والسابعة: ياقوتة حمراء، وبين


الصفحة التالية
Icon