في محل جمع حرام وهو المحرم ﴿إنّ الله يحكم ما يريد﴾ من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق لا يجب عليه مراعاة مصلحة ولا حكمة كما تقوله المعتزلة، فلا يسئل عن تخصيص ولا تفصيل فما فهمتم حكمته فذاك ومالا فكلوه إليه وارغبوا في أن يلهمكم حكمته.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله﴾ جمع شعيرة: وهي اسم ما أشعر أي: جعل شعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج، يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وقيل: معالم دينه، وقيل: فرائضه التي حدّها لعباده ﴿ولا﴾ تحلوا ﴿الشهر الحرام﴾ أي: بالقتال فيه قال تعالى: ﴿إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم﴾ (التوبة، ٣٦) وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فيجوز أن يكون ذلك إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس لأنّ الأشهر كلها في الحرمة سواء، ولكن قال الزمخشريّ: والشهر الحرام شهر الحج ﴿ولا﴾ تحلوا ﴿الهدى﴾ أي: بالتعرّض له وهو ما أهدى إلى الحرم من النعم ﴿ولا﴾ تحلوا ﴿القلائد﴾ أي: صاحب القلائد من الهدى، وعبر بها مبالغة في تحريمها أو القلائد أنفسها، والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدى، والقلائد جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدى من نعل أو غيره ليعلم به أنه هدى فلا يتعرّض له ﴿ولا﴾ تحلوا ﴿آمّين﴾ أي: قاصدين ﴿البيت الحرام﴾ لزيارته أي: بأن تقاتلوهم.
﴿يبتغون فضلاً من ربهم﴾ وهو الثواب ﴿ورضواناً﴾ أي: وأن يرضى عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين، أي: لا تتعرضوا لقومٍ هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرّض لمثلهم، وقيل: معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم لأنهم كانوا يظنون ذلك فوصفوا به بناء على ظنهم ولأنّ الكافر لا نصيب له في الرضوان كقوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان، ٤٩) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً فنهى الله تعالى المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى:
﴿لا تحلوا شعائر الله﴾ فعلى الأوّل الآية محكمة قال الحسن: ليس في المائدة منسوخ، وعلى الثاني قال البيضاوي: فالآية منسوخة أي: لما فيها من حرمة القتال في الشهر الحرام، ومن حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام والأوّل منسوخ بقوله تعالى: ﴿اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ (التوبة، ٥) والثاني بقوله تعالى: ﴿فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ (التوبة، ٢٨) فقوله: منسوخ منزل على هذا، لكن إذا قلنا بشمول آمين للمسلمين والمشركين إنما يكون النسخ في حق المشركين خاصة وهو في الحقيقة تخصيص لا نسخ ففي تسميته نسخاً تسمح، وقرأ شعبة بضم الراء والباقون بالكسر.
﴿وإذا حللتم﴾ أي: من الإحرام وقوله تعالى: ﴿فاصطادوا﴾ أمر إباحة أباح لهم الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا كما في قوله تعالى: ﴿فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض﴾ (الجمعة، ١٠) ﴿ولا يجرمنكم﴾ أي: يحملنَّكم أو يكسبنَّكم ﴿شنآن قوم﴾ أي: شدّة بغضهم، وقرأ ابن عامر وشعبة بسكون النون بعد الشين والباقون بنصبها وقوله تعالى: ﴿أن صدّوكم﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن الشرطية والباقون بفتحها أي: لأجل أن صدوكم في عام الحديبية أو غيره
فافرج عنا فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث: كان لي أبوان هرمان وكان لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيم فلم أرجع حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما قوجدتهما نائمين فشقّ عليّ أنّ أوقظهما فوقفت حابساً محلبي على يديّ حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك الكريم فافرج عنا ففرج
الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك النعمان بن بشير وقد قدّمنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: ﴿ويسألونك عن الروح﴾ (الإسراء، ٨٥).
وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال: كان النضر بن الحرث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله ﷺ وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار، وكان رسول الله ﷺ إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله تعالى وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام وقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ثم قال: إنّ قريشاً بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفته فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال لهم اليهود سلوه عن ثلاثة؛ عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل فإن حديثهم عجيب. وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح وما هي فإن أخبركم فهو نبيّ وإلا فهو متقول، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبراهم بما قالته اليهود، فجاؤوا رسول الله ﷺ وسألوه فقال رسول الله ﷺ «أخبركم بما سألتم عنه غداً»، ولم يستئن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله ﷺ فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه وحي وشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله بسورة أهل الكهف وفيها معاتبة الله تعالى إياه على جراءته عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطوّاف ثم بدأ بالفتية فقال:
﴿إذ﴾، أي: واذكر إذ ﴿أوى الفتية﴾ وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم جميع فتى وهو الشاب الكامل والشباب أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ ﴿إلى الكهف﴾ خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج اهل الانجيل وكثرت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له ذقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله ثم نزل مدينة أهل الكهف وهي أفسوس فلما نزل بها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه واتخذ شرطاً من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم في أماكنهم ويخرجوهم إليه فيخيروهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن
الليل سابق النهار} أي: فلا يأتي أحدهما قبل انقضاء الآخر، فالآية من الاحتباك؛ لأنه نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها القمر ففيه دليل على ما حذف من الثاني من نفي إدراك الشمس للقمر أي: فيغلبها وإن كان يوجد في النهار لكن من غير سلطنة فيه، بخلاف الشمس فإنها لا تكون في الليل أصلاً ونفى ثانياً سبق الليل النهار وفيه دليل على حذف سبق النهار الليل أولاً كما قدرته. ﴿وكل﴾ أي: من الشمس والقمر ﴿في فلك﴾ محيط به وهو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة؛ لأن أهل اللغة على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها، وفلكة الخيمة هي: الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة.
فإن قيل: فعلى هذا تكون السماء مستديرة وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي ويدل عليه قوله تعالى ﴿والسقف المرفوع﴾، (الطور: ٥)
أجاب الرازي: بأنه ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه والسقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك على جبال.
ومن الأدلة الحسية أن السماء لو كانت مستوية لكان ارتفاع أول النهار ووسطه وآخره مستوياً، وليس كذلك وذكر غير ذلك من الأدلة وفي هذا كفاية، ولما ذكر لها فعل العقلاء من كونها على نظام محرر لا يختل وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل جمعها جمعهم بقوله تعالى: ﴿يسبحون﴾ وقال المنجمون: قوله تعالى ﴿يسبحون﴾ يدل على أنها أحياء؛ لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال الرازي: إن أرادوا القدر الذي يكون منه التسبيح فنقول به؛ لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام ﴿ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون﴾ (الصافات: ٩١ ـ ٩٢)
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك ذكر ما هيأ به من الفلك للسباحة على وجه الماء بقوله تعالى:
﴿وآية لهم﴾ أي: على قدرتنا التامة ﴿أنا﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿حملنا ذريتهم﴾ أي: آباءهم الأصول، قال البغوي: واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد والألف واللام في قوله تعالى ﴿في الفلك﴾ للتعريف أي: فلك نوح عليه الصلاة والسلام وهو مذكور في قوله تعالى ﴿واصنع الفلك بأعيننا﴾ (هود: ٣٧)
وهو معلوم عند العرب ثم وصف الفلك بقوله تعالى: ﴿المشحون﴾ أي: الموقر المملوء حيواناً وناساً وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير أحد قط مثلها ولا يرى أيضاً ومع ذلك فسلمها الله تعالى، وأيضاً الآدمي يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك وقع بقدرته تعالى لكن من الطبيعيين من يقول: الخفيف لا يرسب؛ لأنه يطلب جهة فوق فقال ﴿الفلك المشحون﴾ أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله.
وقال أكثر المفسرين: إن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد: إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح عليه الصلاة والسلام وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى ﴿وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون﴾ (الزخرف: ١٢)
وقوله تعالى ﴿وترى الفلك فيه مواخر﴾ (فاطر: ١٢)
وقوله تعالى ﴿فإذا ركبوا في الفلك﴾ (العنكبوت: ٦٥)
إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس، فإن كان المراد: سفينة نوح عليه السلام
لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى، فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى: ﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾ (آل عمران: ٤٧) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، اه.
وقوله: فإن الجمع إلى قوله: محال، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض: ﴿ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين﴾ (فصلت: ١١) وقال الزمخشري: أقسم بالقلم تعظيماً له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف.
وقيل: القلم المذكور ههنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه روي في الأخبار: أول ما خلق الله تعالى القلم، وفي خبر آخر: «أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقاً أعجب إليَّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله ﷺ أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته». وفي خبر آخر: أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد، فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض، قالوا: وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض، وقال البغوي: القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال: أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك.
وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام.
﴿وما يسطرون﴾ أي: الملائكة من الخير والصلاح، وقيل: وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، وقيل: ما يكتبون، أي: الناس ويتفاهمون به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى ﴿وما يسطرون﴾ : وما يعملون، وما موصولة أو مصدرية. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة، وقال البقاعي: وما يسطرون، أي: قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولى العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم أو الأقلام على إرادة الجنس، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره، وأما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه، وأما كل من يكتب منهم ومن غيرهم.
وقوله تعالى: ﴿ما أنت﴾ أي: ياأعلى المتأهلين لخطابنا ﴿بنعمة﴾ أي: بسبب إنعام ﴿ربك﴾ أي: المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة ﴿بمجنون﴾ جواب القسم، وهو نفي، قال الزجاج: أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر. وقوله تعالى: ﴿بنعمة ربك﴾ كلام وقع في الوسط، أي: انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك كما يقال: أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون، وقال البغوي: ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون، أي: إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة، وقيل: بعصمة ربك، وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون والحمد لله، وقيل: معناه ما أنت


الصفحة التالية
Icon