لا تخاف في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني: أمرهم بالصدق في أفعالهم وأقوالهم، وتقدّم نظير هذه الآية في النساء، إلا أنّ هناك قدم لفظة القسط وهنا أخرّها، قال ابن عادل: فكان الغرض من ذلك والله أعلم إنّ آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ بالأمر بالقيام؛ به لأنه أردع للمؤمنين ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه. وقال البيضاوي: وتكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب كما قيل: إنّ الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ولمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ ﴿واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون﴾ فيجازيكم به.
﴿وعد الله الذين آمنوا﴾ أي: أقروا بالإيمان بألسنتهم ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لهذا الإقرار ﴿الصالحات﴾ وحذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله: ﴿لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ فإنه استئناف يبينه. وقيل: الجملة في موضع المفعول فإنّ الوعد ضرب من القول؛ لأنه لا ينعقد إلا به فكأنه قال: وعدهم هذا القول والأجر العظيم هو الجنة.
﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾ أي: النار التي اشتدّ توقدها فاشتدّ احمرارها فلا يراها أحد إلا أحجم عنها فيلقون فيها ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب وهذا من عادة الله سبحانه وتعالى إنه يتبع حال أحد الفريقين حال الفريق الآخر وفاء بحق الدعوة وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم.
﴿يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم﴾ رسمت نعمت هنا بالتاء فوق فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والهاء والباقون بالتاء وفي الوصل الجميع بالتاء.
روي أنّ المشركين رأوا رسول الله ﷺ وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً وذلك بعسفان وهو وادٍ بينه وبين مكة مرحلتان في غزوة ذي أنمار فلما صلّوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف، رواه مسلم وغيره والآية إشارة إلى ذلك.
وروي أنّ رسول الله ﷺ أتى بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم أي: يطلب منهم مالاً قرضاً لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، لكن في رواية البيهقي أنّ المقتولين كانا معاهدين لا مسلمين وأن الخروج كان لبني النضير لا إلى قريظة فقالوا: نعم يا أبا القاسم وكانوا قد عاهدوا النبيّ ﷺ على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقالوا: قد آن لك أن تأتينا أو تسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله ﷺ وأصحابه وخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحش: أنا، فجاء إلى رحا عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده فنزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج رسول الله ﷺ راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً وقال: «لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسأل عني فقل: توجه إلى المدينة» ففعل ذلك حتى
جياعاً ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم
التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق متخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمئة سنة فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان أمر الإيمان ظاهراً فلما رأى عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وينظر يميناً وشمالاً ثم ترك الباب وتحوّل لباب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه، ويقول:
يا ليت شعري ما هذا أمّا عشية أمس فكان المسلمون يخبؤون هذه العلامة ويستخفون بها، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ بكسائه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل، وأمّا اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ولا يخاف ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، ووالله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ فقال: اسمها أفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ثم أنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من هذه المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم فقال: بعني بهذا الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم إلى آخر، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض:
إنّ هذا أصاب كنزاً مخبأ في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه فقال لهم: وهو شديد الفرق أفضلوا عليّ قد أخذتم ورقي فأمسكوها، وأمّا طعامكم فليس لي حاجة به.
فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين وأنت تريد أن تخفيه انطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت وإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم قال: ما وجدت شيئاً وقال قد وقعت في كل شيء أحذر منه قالوا: يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وخاف حتى إنه لم يردّ إليهم جواباً، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطرحوه
بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات.
والوجه الآخر: أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون عذراً فيعتذرون، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن.
والصحيح الأول لما روى أبو هريرة: «أن ناساً سألوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال: فيلقى العبد فيقول: ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال: بلى يا رب قال: فظننت أنك ملاقي فيقول: لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال: ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال: فيقال له: أفلا نبعث عليك شاهدنا قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه، فيقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، قال: وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه».
ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «كنا عند رسول الله ﷺ فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك قال: قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه قال: يقول العبد: يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول: بلى فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول تعالى ﴿كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً﴾ (الإسراء: ١٤)
وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لَكُنَّ أو سحقاً فعنكن كنت أناضل» وقال ﷺ «أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه».
تنبيه: ههنا سؤالات: الأول: ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال ﴿نختم﴾ وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، الثاني: ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، الثالث: أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم؟
أجيب: عن الأول: بأنه لو قال: نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال ﴿وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم﴾ أي: بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
وأجيب عن الثاني: بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى ﴿وما عملته أيديهم﴾ أي: ما عملوه وقال تعالى ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ (البقرة: ١٩٥)
أي: ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن.
وأجيب عن الثالث: بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى
هو في غاية السر، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة من الخفوت وهو الهمود وخفا وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم، ومنه الخفدود للخفاش.
ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى: ﴿أن لا يدخلنها﴾ وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذاً يخلو من سائل ﴿اليوم﴾ أي: في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مراراً وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع فيه أحد في قصدكم ﴿عليكم﴾ وأنتم بها ﴿مسكين﴾ وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، أي: لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك: لا أرينك ههنا، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما يدل عليه ما يأتي: لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، قال البقاعي: وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً.
﴿وغدوا﴾ أي: ساروا إليها غدوة ﴿على حرد﴾ أي: منع للمساكين. قال أبو عبيدة: على حرد، أي: منع من حاردت الإبل حراداً، أي: قل لبنها، والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: على قدرة ﴿قادرين﴾ عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد، أي: بدليل عدم استثنائهم، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة: على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة: على أمر مجتمع.
ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى: ﴿فلما رأوها﴾ أي: بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر ﴿قالوا إنا لضالون﴾ عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها.
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال ﴿بل نحن محرومون﴾ أي: ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (الرعد: ١١)
وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار.
﴿قال: أوسطهم﴾ أي: رأياً وعقلاً وسناً وفضلاً منكراً عليهم ﴿ألم أقل لكم﴾ أي: ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد ﴿لولا﴾ أي: هلا ولم لا ﴿تسبحون﴾ أي: تستثنون، فكان استئناؤهم تسبيحاً، قال مجاهد وغيره: وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي: تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى: تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي: التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً، وقيل: المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، قيل: إن القوم لما عزموا