أي: وأنتم مما بينهما فمن كان هكذا وقدرته هكذا كيف يستحق عليه البشر الضعيف حقاً واجباً وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته الناقصة ديناً لازماً ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً﴾ (الكهف، ٥) ثم قال: ﴿وإليه المصير﴾ أي: المرجع فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
﴿يا أهل الكتاب﴾ أي: من الفريقين ﴿قد جاءكم رسولنا﴾ محمد ﷺ ﴿يبيّن لكم﴾ أي: ما كتمتم وحذف لتقدّم ذكره أو الدين وحذف لظهوره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى ويبذل لكم البيان وجملة يبيّن لكم في موضع الحال أي: جاءكم رسولنا مبيناً لكم وقوله تعالى: ﴿على فترة من الرسل﴾ متعلق بجاءكم أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، قال ابن عباس: يريد على انقطاع من الأنبياء فشبّه فقدهم وبعد العهد بهم ونسيان أخبارهم وبلاء رسومهم وآثارهم وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يغلي ففتر ولم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثرٌ خافٍ ورسْمٌ دارسٌ.
يقال: فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حركته وصار أقلّ مما كان عليه وسميت المدّة بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بترك الشرائع واختلفوا في مدّة الفترة بين عيسى ومحمد ﷺ فقال أبو عثمان النهدي: ستمائة سنة، وقال قتادة: خمسمائة وستون سنة وقال معمر والكلبيّ: خمسمائة وستة وأربعون سنة وعن الكلبيّ: بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبيّ، وبين عيسى ومحمد ﷺ أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسيّ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكون إليه قال البقاعي: ولعله عبّر بالمضارع في يبيّن إشارة إلى أنّ دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه فكلما درست سنة منح الله تعالى بعالم يردّ الناس إليها بالكتاب العزيزالمعجز القائم أبداً فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبيّ مجدّد إلا عند الفتنة التي لا تطيقها العلماء وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج.
ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿أن﴾ أي: كراهة أن ﴿تقولوا﴾ أي: إذا حشرتم وسئلتم عن إهمالكم ﴿ما جاءنا من بشير﴾ أيّ بشير فمن زائدة لتأكد النفي أي: يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز ﴿ولا نذير﴾ أي: يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم وقوله تعالى: ﴿فقد جاءكم بشير ونذير﴾ متعلق بمحذوف أي: لا تعتذروا بما جاءنا من بشير ولا نذير فلا جاءكم بشير ونذير ﴿وا على كل شيء قدير﴾ أي: فيقدر على الإرسال تَتْراً واحداً بعد واحد على التعاقب كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
﴿وإذ قال موسى لقومه﴾ أي: من اليهود ﴿يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم﴾ أي: إنعامه فذكرهم بثلاثة أمور، أولها: قوله تعالى: ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿جعل فيكم﴾ أي: منكم ﴿أنبياء﴾ فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي بإظهار ذال «إذ» عند الجيم وأدغمها أبو عمرو وهشام، وثانيها: قوله تعالى: ﴿وجعلكم ملوكاً﴾ أي: وجعل منكم أو فيكم فقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهمّوا بقتل عيسى وقال ابن عباس: وأصحاب خدم وحشم، قال قتادة: كانوا أوّل من ملك الخدم ولم يكن قبلهم خدم.
وعن أبي سعيد الخدري
الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً إن بقي حياً أن يعيقه عن ذلك الفعل سائر العوائق فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفر لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول إن شاء الله حتى إذا تعذر عليه الوفاء بذلك الوعد لم يصر كاذباً ولم يحصل التنفير.
تنبيه: قال كثير من الفقهاء: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع عليه الطلاق لأنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئته تعالى لم يقع عليه الطلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ومشيئة الله تعالى غيب لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة وقع وهو الطلاق، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة إلا إذا وقع الطلاق ولا يعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفت المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منهما على العلم بالآخر وهو دور فلهذا لا يقع الطلاق وقيل المراد إلا أن يشاء الله، أي: إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك بأنك تفعل الفعل الفلاني إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك الإخبار، وقد احتج القائلون بأنّ المعدوم شيء بهذه الآية لأنّ الشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. وأجيب: بأنّ هذا الاستدلال لا يفيد إلا أنّ المعدوم يسمى بكونه شيئاً وعندنا أنّ السبب فيما سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما قال تعالى: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ (النحل، ١)
والمراد سيأتي أمر الله.
واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس: لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدّة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في رفع الحنث. وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس لا يقدر على الاستثناء إلا في مجلسه. وعن عطاء يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة وعند عامّة الفقهاء أنه لا أثر له في الكلام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بأنّ قوله إذا نسيت غير مختص بوقت غير معين بل هو متناول لكل الأوقات وظاهره أنّ الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أمّا عامّة الفقهاء فقالوا: لو جوّزنا ذلك للزم أن لا يستقرّ شيء من العقود والإيمان يحكى أنّ المنصور بلغه أنّ أبا حنيفة خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له الإمام أبو حنيفة: هذا يرجع عليك لأنك تأخذ البيعة بالإيمان أترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي الله عنه واستدلّ بأنّ الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾ (المائدة، ١)
وقال تعالى: ﴿وأوفوا بالعهد﴾ (الإسراء، ٣٤)
فإذا أتى بالعقد أو العهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلاً لأنّ الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أنّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى بعض الكلمة الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، فإذا لم يكن متصلاً أفاد الالتزام التامّ فوجب الوفاء بذلك الملتزم، وقيل أنّ قوله تعالى: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله. قال عكرمة: واذكر ربك إذا غضبت وقال وهب: مكتوب في الانجيل ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقال
كما قال تعالى:
﴿لا يستطيعون﴾ أي: الآلهة المتخذة ﴿نصرهم﴾ أي: العابدين ﴿وهم﴾ أي: العابدون ﴿لهم﴾ أي: للآلهة ﴿جند محضرون﴾ أي: الكفار جند الأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً، وقيل: هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جنده يحضرون في النار وهذا كقوله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ (الأنبياء: ٩٨)
وقوله تعالى: ﴿احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم﴾ (الصافات: ٢٢ ـ ٢٣)
ولما بين تعالى ما تبين من قدرته الظاهرة الباهرة ووهن أمرهم في الدنيا والآخرة ذكر ما يسلى نبيه ﷺ بقوله تعالى:
﴿فلا يحزنك قولهم﴾ أي: في تكذيبك كقولهم: ﴿لست مرسلاً﴾ (الرعد: ٤٣)
﴿إنا نعلم ما﴾ أي كل ما ﴿يسرون﴾ أي: في ضمائرهم من التكذيب وغيره ﴿وما يعلنون﴾ أي: يظهرونه بألسنتهم من الأذى وغيره من عبادة الأصنام فنجازيهم عليه.
ولما ذكر تعالى دليلاً على عظم قدرته ووجوب عبادته بقوله تعالى: ﴿أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً﴾ ذكر دليلاً من الأنفس أبين من الأول بقوله تعالى:
﴿أولم ير﴾ أي: يعلم ﴿الإنسان﴾ علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر ﴿أنا خلقناه﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿من نطفة﴾ أي: شيء حقير يسير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا إياه من تراب وأنه من لحم وعظام ﴿فإذا هو﴾ أي: فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه ﴿خصيم﴾ أي: بليغ الخصومة ﴿مبين﴾ أي: في غاية البيان عما يريده حتى إنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته وأنشد الأستاذ القشيري في ذلك:
*أعلمه الرماية كل يوم | فلما اشتد ساعده رماني* |
*وكم علمته علم القوافي | فلما قال قافية هجاني* |
﴿وضرب﴾ أي: هذا الإنسان ﴿لنا﴾ أي: على ما يعلم من عظمتنا ﴿مثلاً﴾ أي: أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، روي: «أن أبي بن خلف الجمحي وهو الذي قتله النبي ﷺ بأحد مبارزة، أتى النبي ﷺ بعظم بال يفتته بيده فقال: أترى الله يحيي هذا بعدما رم؟ فقال ﷺ نعم ويبعثك ويدخلك النار» فنزلت. وقيل: هو العاصي بن وائل قاله الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأول ﴿ونسي﴾ أي: هذا الذي تصدى على مهانة أصله لمخاصمة الجبار ﴿خلقه﴾ أي: بدء أمره من المني وهو أغرب من مثله، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول وأن يكون بمعنى الترك، ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بأن ﴿قال﴾ أي: على طريق الإنكار ﴿من يحيي العظام وهي رميم﴾ أي: صارت تراباً تمرّ مع الرياح ورميم قال البيضاوي: بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث، أو اسم مفعول من رممته، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء ا. هـ.
كلفتهم بها ﴿مثقلون﴾ أي: ثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال فثبطهم ذلك عن الإيمان. والمعنى: ليس عليهم كلفة في متابعتك بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
﴿أم عندهم﴾ أي: خاصة ﴿الغيب﴾ أي: علمه عن اللوح المحفوظ أو غيره ﴿فهم﴾ أي: بسبب ذلك ﴿يكتبون﴾ أي: ما يريدون منه ليكونوا قد أطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله، أو أنهم لا درك عليهم في التكذيب به فقد علم من هذا أنهم لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة، وإنما كيدهم مجرد خبث طباع وظلمة نفوس وأماني فارغة وأطماع.k
﴿فاصبر﴾ أي: أوقع الصبر وأوجده على كل ما يقولونه فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيرهم من ممر القضاء ﴿لحكم ربك﴾ أي: القضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومدّ لهم على ذلك في الأجل، وأسبغ عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر. وقال ابن بحر: فاصبر لنصر ربك، وقيل: إن ذلك منسوخ بآية السيف. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه ﷺ ويأمره بالصبر ولا يعجل. ﴿ولا تكن﴾ أي: ولا يكن حالك يا أشرف الخلق في الضجر والعجلة ﴿كصاحب﴾ أي: كحال صاحب ﴿الحوت﴾ وهو يونس عليه السلام.
وقوله تعالى: ﴿إذ﴾ منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله أو قصتك حين ﴿نادى﴾ أي: ربه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة اللجج ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي إنما ينصب على أحوالها وصفاتها، وقوله تعالى: ﴿وهو مكظوم﴾ جملة حالية من الضمير من نادى والمكظوم الممتلئ حزناً أو غيظاً، ومنه كظم السقاء إذا ملأه، قال ذو الرمة:
*وأنت من حب ميّ مضمر حزناً | غالي الفؤاد قريح القلب مكظوم* |
ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال تعالى: ﴿لولا أن تداركه﴾ أي: أدركه إدراكاً عظيماً ﴿نعمة﴾ أي: عظيمة جداً.
تنبيه: حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه.
﴿من ربه﴾ أي: الذي أحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة. وقال الضحاك: النعمة هنا النبوة، وقال ابن جبير: عبادته التي سلفت، وقال ابن زيد: نداؤه بقوله:
﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾، وقال ابن بحر: إخراجه من بطن الحوت. وقوله تعالى: ﴿لنبذ﴾ أي: لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله تعالى عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً ﴿بالعراء﴾ أي: الأرض القفراء الواسعة التي لا بناء فيها ولا جبال ولا نبات، البعيدة عن الأنس جواب لولا. وقيل: جوابها مقدر، أي: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه ﴿مذموم﴾ أي: ملوم على الذنب. وقيل: مبعد