فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله تعالى يوشع عليه السلام نبياً فأخبرهم أنّ الله تعالى قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق وأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال: اللهمّ اردد الشمس عليّ وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة
الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فردّت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين.
وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً: «إنّ الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس» ثم تتبّع ملوك الشأم فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشأم وصارت الشأم كلها لبني إسرائيل وفرق عمّاله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله تعالى إلى يوشع إنّ فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: هلمّ ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر، وكان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل إبراهيم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة وتدبر أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعاً وعشرين سنة فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.
ولما ندم موسى عليه السلام على الدعاء عليهم قال تعالى: ﴿فلا تأس على القوم الفاسقين﴾ فبين تعالى أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
﴿واتل عليهم نبأ ابني آدم﴾ وهما هابيل وقابيل وقوله تعالى: ﴿بالحق﴾ صفة مصدر محذوف أي: تلاوة متلبسة بالحق. وقصتهما: أنّ الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأم الآخر وكانت حواء تلد لآدم كل بطن غلاماً وجارية وظاهر كلام المؤرّخين أنّ آدم لا يحل له أن يتزوّج بواحدة من بناته ولا من بنات أولاده، ولهذا ألغز بعضهم بقوله: ماتت زوجة رجل فحرم عليه نساء الدنيا وكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته اقليما وثانيهم هابيل وتأومته يلودا وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمّ المغيث، ثم بارك الله تعالى في نسل آدم عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً فأراد آدم أن ينكح قابيل يلودا أخت هابيل وينكح هابيل اقليما وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل فذكر ذلك لولده فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها فقال له أبوه: إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال: إنّ الله لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيك فقال لهما آدم: قربا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكله الطير والسباع فخرجا ليقربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ـ ما أبالي تقبل مني أم لا ـ لا يتزوّج أختي أبداً وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرّبه، وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا
الواقعة رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وغلب الممالك والدول ولو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أوّل عهد عمر إلى الآن ما تيسر له، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أنّ هذا من أعظم الكرامات.
وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة، منها ما روي عن أنس قال: سرت في الطريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلتُ على عثمان فقال: ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله ﷺ فقال: لا ولكن فراسة صادقة، ومنها أنه لما طعن بالسيف فأوّل قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى: ﴿فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم﴾ (البقرة، ١٣٧)
. ومنها أنّ جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان فكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته.
وأما علي رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة أيضاً، منها ما روي أنّ واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى عليّ فقال: أسرقت؟ فقال: بلى. فقطع يده فانصرف من عند علي فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء. فقال ابن الكواء: من قطع يدك؟ فقال له: أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال له سلمان: قطع يدك وتمدحه. فقال: ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار، فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل، ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء: إرفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برئت.
وأما ما روي عن بعض الصحابة فشيء كثير، ونذكر منها شيئاً قليلاً، منها ما روى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، وركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إليّ يريدني فقلت: يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ﷺ قال: فتقدّم الأسد إليّ ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودّعني ورجع.
ومنها ما روى ثابت عن أنس أنّ أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدّثا عند رسول الله ﷺ في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وكان في يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما افترقت بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى حتى بلغ منزله. ومنها ما روي أنه قيل لخالد بن الوليد أنّ في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه خمر فقال: ما هذا؟ قال: خل. فقال خالد: اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى أصحابه فقال: أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثله فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا: والله ما جئتنا إلا بخل فقال: والله هذا دعاء خالد. ومنها الواقعة المشهورة وهي أنّ خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضرّه.
ومنها ما روي أنّ ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم، ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. ومنها ما روي أنّ النبيّ ﷺ بعث العلاء الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر
الهيبة منتظرين لأمر الله الزاجرين، للأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخبر، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين لآيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطواف الأجرام المترتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أو بنفوس العلماء الصادقين في العبارات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصادقين في الجهاد الزاجرين للخيل والعدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو، وقال الزمخشري: الفاء في، فالزاجرات والتاليات إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله:

*يا لهف زيابة للحرث الصابح فالغانم فالآيب*
أي: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها كقوله: «رحم الله المحلقين فالمقصرين»، والبيضاوي ذكر هذا حديثاً قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره بهذا اللفظ ا. هـ، لكنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وقرأ أبو عمرو وحمزة بالإدغام فيما ذكر، والباقون بالإظهار؛ وجواب القسم.
﴿إن إلهكم﴾ أي: الذي اتخذتم من دونه آلهة ﴿لواحد﴾ إذ لو لم يكن واحداً لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة وما يترتب عليها فكان غير حكيم، فإن قيل: ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجهين:
الأول: أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو الكافر، فالأول باطل؛ لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف.
والثاني: باطل أيضاً؛ لأن الكافر لا يقرّ به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل تقدير، الثاني: أنه يقال أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق، فقال: ﴿والذاريات ذرواً﴾ (الذاريات: ١)
إلى قوله ﴿إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع﴾ (الذاريات: ٥)
وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا يليق بالعقلاء؟ أجيب: عن ذلك بأوجه:
أولها: أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في غالب السور بالدلائل اليقينية، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لما تقدم لاسيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب.
ثانيها: أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل: إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة.
ثالثها: أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشيائ على صحة قوله تعالى: ﴿إن إلهكم لواحد﴾ (الصافات: ٤)
عقبه بما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحد، وهو قوله تعالى:
﴿رب﴾ أي: موجد ومالك ومدبر ﴿السموات﴾ أي: الأجرام العالية ﴿والأرض﴾ أي: الأجرام السافلة ﴿وما بينهما﴾ أي: من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي، وذلك؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ (الأنبياء: ٢٢)
أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال ﴿إن إلهكم لواحد﴾ أردفه
التي تسميها العرب العجوز ذات برد وريح شديدة قيل: سميت عجوزاً لأنها في عجز الشتاء، وقيل: سميت بذلك لأنّ عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب ﴿حسوماً﴾ قال مجاهد وقتادة رضي الله عنهما: متتابعة ليس فيها قترة، فعلى هذا هو من حسم الكي، وهو أن يتابع على موضع الداء المكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء يقطع: حاسم وجمعه حسوم مثل شاهد وشهود. وقال الكلبي: حسوماً دائماً، وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم القطع والمنع ومنه: حسم الداء، وقال عطية: حسوماً شؤماً كأنها حسمت الخير عن أهلها.
تنبيه: في إعراب حسوماً أوجه: أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبله. ثانيها: أن ينتصب على الحال، أي: ذات حسوم. ثالثها: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حسوماً.
واختلفوا في أولها فقال السدي: غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: غداة يوم الجمعة، وقال يحيى بن سلام ووهب بن منبه رضي الله عنهم: غداة يوم الأربعاء وهو اليوم النحس المستمر قيل: كان آخر أربعاء في السنة وآخرها يوم الأربعاء. وقال البقاعي: وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً فتأمل ذلك ا. هـ. وهو ظاهر.
ولما كان الحاسم المهلك تسبب عنه قوله تعالى مصوراً لحالهم الماضية: ﴿فترى القوم﴾ أي: الذين هم غاية في القدرة على ما يحاولونه ﴿فيها﴾ أي: تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنهم ﴿صرعى﴾ أي: مجندلين على الأرض موتى جمع صريع وهي حال نحو قتيل وقتلى وجريح وجرحى، والضمير فيها للأيام والليالي كما مر أو للبيوت أو للريح قال ابن عادل: والأول أظهر لقربه.
﴿كأنهم أعجاز﴾ أي: أصول ﴿نخل﴾ قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز ﴿خاوية﴾ أي: متأكلة الأجواف ساقطة من خوى النجم إذا سقط للغروب، ومن خوى المنزل إذا خلا من قطّانه. قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، والوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.
﴿فهل ترى﴾ أي: أيها المخاطب الخبير بالناس في جميع الأقطار ﴿لهم﴾ أي: خصوصاً. وأغرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال تعالى: ﴿من باقية﴾ فيكون المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان، أي: من باق، والأحسن أن تكون صفة لفرقة أو لطائفة أو نفس أو بقية أو نحو ذلك. وقيل: فاعلة بمعنى المصدر كالعافية والباقية. قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً، قال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله تعالى من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى: ﴿فهل ترى لهم من باقية﴾. وقوله تعالى: ﴿فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم﴾ (الأحقاف: ٢٥)
. ونجى الله تعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرّهم الصاعقة، وهوداً عليه السلام ومن آمن به من عاد ولم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات، كما أن له تمام الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم كالمجرم ولا المسيء كالمحسن، وجواب هل لم يبق


الصفحة التالية
Icon