قربانهما على الجبل ثم دعا آدم فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل كما قال تعالى: ﴿إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما﴾ وهو هابيل ﴿ولم يتقبل من الآخر﴾ وهو قابيل لأنه سخط حكم الله ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده فغضب قابيل لردّ قربانه وأضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت الحرام فلما
غاب آدم أتى قابيل لهابيل وهو في غنمه ﴿قال لأقتلنك﴾ قال: ولم؟ قال: لأنّ الله تعالى قبل قربانك وردّ قرباني وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدّث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي ﴿قال﴾ هابيل وما ذنبي؟ ﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾.
فإن قيل: كيف كان قول هابيل إنما يتقبل الله من المتقين جواباً لقوله لأقتلنك؟ أجيب: بأنه لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ومالك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول فأجابه بكلام حليم مختصر جامع لمعانٍ وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محظوظاً لا في إزالة حظ المحسود فإنّ ذلك مما يضرّه ولا ينفعه وأنّ الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متَّقٍ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وكنت فقال: إني أسمع الله يقول: ﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾.
﴿لئن﴾ لام قسم ﴿بسطت﴾ أي: مددت ﴿إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين﴾ قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: وأيم الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ولكن منعه التحرّج أن يبسط إلى أخيه يده خوفاً من الله عز وجل لأن الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وإنما قال: ما أنا بباسط في جواب لئن بسطت للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأساً والتحرّز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء من يدي والباقون بالسكون، واتفق القراء السبعة على بقاء صفة الطاء في بسطت وإدغام الطاء في التاء لأنّ مخرج الطاء والتاء واحد ولكن الصفة مختلفه فالطاء منطبقة والتاء منفتحة والطاء مستعلية والتاء مستقلة والطاء مجهورة والتاء مهموسة ويقال في ذلك: إدغام الحرف وإبقاء الصفة.
﴿إني أريد أن تبوء﴾ أي: ترجع ﴿بإثمي﴾ أي: بإثم قتلي ﴿وإثمك﴾ الذي ارتكبته من قبل ﴿فتكون من أصحاب النار﴾ ولا أريد أن أبوء بإثمك إذا قتلتك فأكون منهم.
فإن قيل: كيف قال: أريد أن تبوء بإثمي وإثمك وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ أجيب: بأنّ ذلك ليس بحقيقةِ إرادة، لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً وإن لم يكن مريداً حقيقة ﴿وذلك جزاء الظالمين﴾ أي: الراسخين في وصف الظلم وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاء لي بإحساني في إيثاري حياتك على حياتي وذلك جزاء المحسنين.
﴿فطوّعت﴾ قال قتادة: فزينت ﴿له نفسه قتل أخيه فقتله﴾ قال ابن جريج: تمثل له إبليس وأخذ له طائراً ووضع رأسه على حجر وشدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل فرضخ قابيل
فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحدّ والحصر فمن أرادها طالعها.
وأما الدلائل العقلية على جواز الكرامات فمن وجوه: الأوّل: أنه ﷺ قال حاكياً عن رب العزة: «من آذى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة» فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، استسقيتك فما سقيتني، استطعمتك فما أطعمتني، فيقول: يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول: إنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي». وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أنّ أولياء الله يبلغون هذه الدرجات العالية والمراتب الشريفة. فإذا جاز اتصال العبد إلى هذه الدرجات فأيّ بعد أن يعطيه الله تعالى كسرة خبز أو جرعة ماء أو يسخر له كلباً أو دودة.
الوجه الثاني: أنه ﷺ قال عن رب العزة: «ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترض عليه، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً ولساناً ويداً ورجلاً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي». وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله تعالى لما قال: أنا سمعه وأنا بصره، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة من الماء في مفازة.
الوجه الثالث: لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر. والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه.
واحتج المنكر للكرامات بوجوه: الأوّل: أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلاً على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة.
الوجه الثاني: أنّ الله تعالى قال: ﴿وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس﴾ (النحل، ٧).
والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أنّ النبيّ ﷺ لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد.
الوجه الثالث: أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهماً واحداً فهل يطلب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثاً لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله ﷺ «البينة على المدّعي».
فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل، وأجيب عن الأوّل بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية؟ فقال قوم من المحققين إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة
بقوله ﴿رب السموات والأرض وما بينهما﴾ كأنه قيل: بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
تنبيه: علم من قوله تعالى ﴿وما بينهما﴾ أنه تعالى خالق لأعمال العباد؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى، فإن قيل: الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك؟ أجيب: بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السموات والأرض ﴿ورب المشارق﴾ أي: والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمئة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل.
وقيل: كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس.
وقيل: المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها؛ لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، فإن قيل: إن الله تعالى قال في موضع ﴿رب المشرق والمغرب﴾ (الشعراء: ٢٨)
وقال في موضع آخر ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ (الرحمن: ١٧)
فما الجمع بين هذه المواضع؟ أجيب: بأن المراد بقوله ﴿رب المشرق والمغرب﴾ الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى: ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر. فإن قيل: لم اكتفى بذكر المشارق؟ أجيب: بوجهين.
الأول: أنه اكتفى به كقوله تعالى ﴿تقيكم الحر﴾ (النحل: ٨١)
والثاني: أن الشروق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً منه فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بقوله ﴿إن الله يأتي بالشمس من المشرق﴾ (البقرة: ٢٥٨)
﴿إنا زينا﴾ أي: بعظمتنا التي لا تدانى ﴿السماء﴾ ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السموات وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال تعالى ﴿الدنيا﴾ أي: التي هي أدنى السموات إليكم ﴿بزينة الكواكب﴾ أي: بضوئها كما قاله ابن عباس أو بها، وقرأ عاصم وحمزة بزينة بالتنوين، والباقون بغير تنوين والإضافة للبيان كقراءة تنوين بزينة المبينة بالكواكب ونصب الياء الموحدة من الكواكب شعبة، وكسرها الباقون.
فإن قيل: قد ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات الستة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله تعالى ﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾ ؟ أجيب: بأن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إن نظروا إلى السماء الدنيا فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى ﴿إنا زينا السماء بزينة الكواكب﴾ وقوله تعالى:
﴿وحفظاً﴾ منصوب بفعل مقدر أي: حفظناها بالشهب أو معطوف على زينة باعتبار المعنى، كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً ﴿من كل شيطان﴾ أي: بعيد
منهم أحد.
﴿وجاء فرعون﴾ أي: الذي ملكناه طائفة من الأرض وتجبر وادعى الإلهية ناسياً نعمتنا وقدرتنا. وقوله تعالى: ﴿ومن قبله﴾ قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: ومن عنده من أتباعه، وقرأه الباقون بفتح القاف وسكون الباء الموحدة على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه من الأمم الكافرة ﴿والمؤتفكات﴾ أي: أهلكها وهي قرى قوم لوط، أي: المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلها لما حصل لأهلها من الانقلاب ﴿بالخاطئة﴾، أي: بالفعلات ذات الخطأ الذي يتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق.
ولما كانت الرسل كالفرد الواحد لاتفاقهم وتعاضدهم في الدعاء إلى الله تعالى والحمل على طاعته قال مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح لكثير بإرادة الجنس: ﴿فعصوا﴾ أي: خالفوا ﴿رسول ربهم﴾ أي: خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإبداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغتراراً بإحسانه، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز فصل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله تعالى: ﴿فأخذهم﴾ أي: ربهم، أخذ قهر وغضب ﴿أخذة﴾ لم تبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من المؤمنين لابدّ أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه بالجزئيات والكليات وشمول قدرته وتلك الأخذة مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة جعلها سبحانه ﴿رابية﴾ أي: عالية عليهم زائدة في الشدة على غيرها وعلى عذاب الأمم، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه: الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى، والمعنى أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار، وقيل لأن عقوبة آل فرعون متعلقة بعذاب الآخرة لقوله تعالى: ﴿اغرقوا فأدخلوا ناراً﴾ (نوح: ٢٥)
وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كانت كأنها تنمو وتربو.
ثم ذكر تعالى قصة نوح عليه السلام وهي قوله تعالى: ﴿أنا﴾ أي: على عظمتنا ﴿لما طغى الماء﴾ أي: زاد على الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به، فلم يطيقوا ضبطه ولا فوره بوجه من الوجوه. وقال ﷺ «طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه تعالى فلم يقدروا على حبسه». قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسمائة ذراع وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «طغى الماء زمن نوح عليه السلام على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم». والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم منّ الله عليهم بأن جعلهم ذرية من نجى من الغرق بقوله تعالى: ﴿حملناكم﴾ أي: في ظهور آبائكم ﴿في الجارية﴾ أي: السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، والمحمول في الجارية إنما هو نوح عليه السلام وأولاده وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك، والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله تعالى: {وله الجوار المنشآت في