رأس هابيل بين حجرين وقتله وهو مستسلم وقيل: اغتاله في النوم وهو نائم فشدخ رأسه فقتله ﴿فأصبح﴾ أي: فصار ﴿من الخاسرين﴾ بقتله ولم يدر ما يصنع به لأنه أوّل ميت على وجه الأرض من بني آدم وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة فحمله بعد قتله في جراب أربعين يوماً وقال ابن عباس: سنة حتى أروح وعكف عليه الطير والسباع تنظر متى يرمي فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره ورجليه حتى مكنّه ثم ألقاه في الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه فذلك قوله تعالى:
﴿فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه﴾ أي: الله أو ليريه الغراب أي: ليعلمه؛ لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز ﴿كيف يواري﴾ أي: يستر ﴿سوأة﴾ أي: جيفة ﴿أخيه﴾ وقيل: عورته لأنه كان سلبه ثيابه فلما رأى قابيل ذلك ﴿قال يا ويلتي﴾ كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم والمعنى: يا ويلتي احضري فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة ﴿أعجزت﴾ أي: مع ما جعل الله لي من القوّة الناطقة ﴿أن﴾ أي: عن أن ﴿أكون﴾ مع مالي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك ﴿مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي﴾ أي: لأهتدي إلى ما اهتدى إليه وقوله تعالى: ﴿فأواري﴾ عطف على أكون وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لواريت ﴿فأصبح﴾ أي: بسبب قتله ﴿من النادمين﴾ أي: على ما فعل لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه وما انتفع من قتله بشيء، قال المطلب بن عبد الله بن حنطب: لما قتل ابن آدم أخاه رجّت الأرض بما فيها سبعة أيام وعن ابن عباس لما قتله، وكان آدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت وأمرّ الماء واغبرّت الأرض فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث.
وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض وشربت الأرض الدم فسأله آدم عليه السلام بعد مجيئه من مكة عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك قال: فأين دمه إن كنت قتلته فحرّم الله عز وجل على الأرض من يومئذٍ أن تشرب دماً بعده أبداً، وعن الواقدي: أنّ السودان كلهم من ولده وعن محمد بن إسحاق: كان نوح نائماً فرآه ابنه حام عرياناً فلم يستره فاسودّ في الوقت فالسودان من ولده ورآه ابنه سام فستره.
وروي أنّ آدم صلوات الله وسلامه عليه مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه لما أتى من مكة إلى الهند رثاه بشعر وهو:

*تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبرّ قبيح*
*تغير كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه المليح*
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من قال إنّ آدم قال شعراً فقد كذب إنّ محمداً والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء.
وروي أنه رثاه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يقول الشعر فنظر إلى المرثية فإذا هي سجع فقال: إنّ هذا يقوم منه شعر فرد المقدّم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدّم فوزنه شعراً وزيد فيه أبيات منها:
بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره، والكرامة لا يجب ظهورها، وأجيب عن الثاني بأنّ قوله تعالى: ﴿وتحمل أثقالكم﴾ إلى آخره محمول على المعهود المتعارف، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف، وأجيب عن الثالث بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله ﷺ «البينة على المدّعي». ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفاً وجلاً ولهذا قال المحققون: أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء.
والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه: الأوّل: أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور. الوجه الثاني: أنّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومن كان لعمله وقع عظيم في قلبه كان جاهلاً إذ لو عرف ربه لعلم أنّ كل طاعات الخلق في جنب جلاله تقصير وكل شكر في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل.
وجدت في بعض الكتب أنه قرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: ﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ (فاطر، ١٠)
فقال: علامة أنّ الحق رفع عملك أن لا يبقى عندك مرتقى عملك في نظرك، فإن بقي عملك في نظرك فهو غير مرفوع وإن لم يبق عملك في نظرك فهو مرفوع مقبول. الوجه الثالث: أنّ صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتضرّع في حضرة الله تعالى، فإذا ترفع وتكبر وتجبر بسبب الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق يؤدّي ثبوته إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر ﷺ مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر، أي: لا أفخر بهذه الكرامات، وإنما أفخر بالمكرم والمعطي. الوجه الرابع: أنه تعالى وصف عباده المخلصين بقوله تعالى: ﴿ويدعوننا رغباً﴾ (الأنبياء، ٩٠)، أي: في ثوابنا ﴿ورهباً﴾، أي: من عذابنا. وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من عقابنا. قال بعض المحققين: والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً عنا، وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، جعلنا الله تعالى وأحبابنا من أهل ولايته بمحمد ﷺ وآله وصحابته. ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث أنها من المغيبات بالإضافة إلى النبيّ ﷺ على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه بقوله تعالى:
﴿واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك﴾، أي: القرآن واتبع ما فيه واعمل بما فيه ﴿لا مبدّل لكلماته﴾، أي: لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره، وقال بعضهم: مقتضى هذا أن لا يتطرق النسخ إليه وأجاب بأنّ النسخ في الحقيقة ليس تبديلاً لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً وهذا لا يحتاج إليه مع التفسير المذكور ﴿ولن تجد من دونه﴾، أي: الله ﴿ملتحداً﴾، أي: ملجأً في البيان والإرشاد وقيل إن لم تتبع
عن الخير محترق ﴿مارد﴾ أي: عات خارج عن الطاعة.
ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته استأنف قوله تعالى:
﴿لا يسمعون﴾ أي: الشياطين المفهومون من كل شيطان ﴿إلى الملأ الأعلى﴾ أي: الملائكة أو أشرافهم في السماء، وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بفتح السين وتشديدها وتشديد الميم من التسمع وهو طلب السماع، وقرأ الباقون بسكون السين وتخفيف الميم ﴿ويقذفون﴾ أي: الشياطين يرمون بالشهب ﴿من كل جانب﴾ أي: من آفاق السماء وقوله تعالى:
﴿دحوراً﴾ مصدر دحره أي: طرده وأبعده وهو مفعول له، وقيل: هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل، وقيل: غير ذلك ﴿ولهم﴾ أي: في الآخرة ﴿عذاب﴾ غير هذا ﴿واصب﴾ أي: دائم، وقال مقاتل: أي: دائم في الدنيا إلى النفخة الأولى وقوله تعالى:
﴿إلا من خطف﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير لا يسمعون وهو أحسن؛ لأنه غير موجب. والثاني: أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى: أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف، وقوله تعالى: ﴿الخطفة﴾ مصدر معرف بأل الجنسية أو المعرفة ومعنى اختطف اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة ﴿فاتبعه﴾ أي: لحقه ﴿شهاب﴾ أي: كوكب ﴿ثاقب﴾ أي: مضيء قوي لا يخطئه يقتله أو يحرقه أو يثقبه أو يخبله.
تنبيه: ههنا سؤالات:
أولها: أن هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا؟ والأول: باطل؛ لأنها تبطل وتضمحل فلو كانت تلك الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير البتة، وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء الدنيا فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض، وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مشكل؛ لأنه تعالى قال في سورة الملك ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشيطانين﴾ (الملك: ٥)
فالضمير في قوله ﴿وجعلناها﴾ عائد على المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي المرجوم بها بأعيانها.
ثانيها: كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الفعل من عاقل؟ فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة؟.
ثالثها: دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي ﷺ ولذلك ترى الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ﷺ بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي ﷺ امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم
رابعها: الشيطان مخلوق من النار كما حكى عن قول إبليس لعنه الله تعالى ﴿خلقتني من نار﴾ (الأعراف: ١٢)
وقال تعالى ﴿والجان خلقناه من قبل من نار السموم﴾ (الحجر: ٢٧)
ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.
أجيب عن الأول: بأن هذه الشهب غير تلك
البحر كالأعلام} (الرحمن: ٢٤)
وغلب استعمال الجارية في السفينة كقولهم في بعض الألغاز:
*أرى طول الحياة عليّ غماً فهل أنا من حياتي مستريح*
*ومالي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح*
*رأيت جارية في بطن جارية في بطنها رجل في بطنها جمل*
ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي من الله تعالى وبحفظه له قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء وأغرقنا سوى من كان في تلك السفينة من جميع أهل الأرض من آدمي وغيره ﴿لنجعلها﴾ أي: هذه الفعلة العظيمة وهي إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بهذا العذاب أحد، وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه ﴿لكم﴾ أيها الناس ﴿تذكرة﴾ أي: عبرة ودلالة على قدرته تعالى وعظمته ورحمته وقهره فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه.
وقوله تعالى: ﴿وتعيها﴾ عطف منصوب على لنجعلها، أي: ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوي في وعاء ﴿أذن﴾ أي: عظيمة النفع ﴿واعية﴾ أي: من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله تعالى كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض، والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عقلت عن الله تعالى فهو السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين ا. هـ. وقرأ نافع بسكون الذال والباقون بضمها.
ولما ذكر تعالى القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع سبحانه وتعالى في تفاصيل أحوالها وبدأ بذكر مقدماتها بقوله تعالى: ﴿فإذا نفخ﴾ وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأن ما يتأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه لذلك من جنده تأثر عنه ما يريده ﴿في الصور﴾ أي: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال البقاعي: كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً؛ لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة، وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها وسعته كما بين السماء والأرض ﴿نفخة واحدة﴾ للفصل بين الخلائق.
قال الزمخشري: فإن قلت: هما نفختان، فلم قيل: واحدة؟ قلت: معناه أنها لا تثنى في وقتها. ثم قال: فإن قلت: فأي النفختين هي؟ قلت: الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عنه أنها الثانية ا. هـ.
قال البقاعي: وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه أهيب وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ا. هـ. واقتصر البيضاوي على أنها الأولى والجلال المحلي على أنها الثانية وهو الأنسب كما قاله البقاعي.
ثم إن الزمخشري سأل سؤالاً على أنها النفخة الأولى بقوله: فإن قلت: أما قال بعد: ﴿يومئذ تعرضون﴾ والعرض إنما هو عند النفخة الثانية، قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور والوقوف للحساب، فلذلك قيل: ﴿يومئذ تعرضون﴾ كما تقول: جئتك عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ا. هـ.
ولما ذكر التأثير في الأحياء أتبعه التأثير في الجمادات وبدأ منها بالسفليات لملابستها للإنسان


الصفحة التالية
Icon