فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله أي: إنه خلف الله من هابيل علّمه الله ساعات الليل والنهار وأعلمه الله عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده. وأمّا قابيل فقيل له: اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا يأمن من يراه، فأخذ بيد أخته أقليماً وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس لعنه الله تعالى وقال له: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أوّل من عبد النار، قال مجاهد: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى بالطوفان أيام نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث عليه السلام، قال البقاعي في تفسيره: والله أعلم بما يروى من ذلك ولا يعتمد على مثل هذه الأحاديث، وقد أحسن الطبري بقوله: أخبر الله تعالى بقتله ولا خبر يقطع العذر بصفة قتله على ما ذكرنا منه في مثله ولا فائدة في طلب الصحيح منه في الدين اه.
وروي أنه ﷺ قال: «لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل».
﴿من أجل ذلك﴾ أي: الذي فعله قابيل ﴿كتبنا﴾ أي: قضينا ﴿على بني إسرائيل﴾ في التوراة لأنهم كانوا أشدّ الناس جراءة على القتل ولذلك كانوا يقتلون الأنبياء ﴿إنه﴾ أي: الشأن ﴿من قتل نفساً﴾ أي: من بني آدم ﴿بغير نفس﴾ أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص ﴿أو﴾ قتلها بغير ﴿فساد﴾ أتاه ﴿في الأرض﴾ كالشرك والزنا بعد الإحصان وقطع الطريق وكل ما يبيح إراقة الدم ﴿فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ أي: من حيث هتك حرمة الدماء وسنّ القتل وجراءة الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استحلال غضب الله والعذاب العظيم.
﴿ومن أحياها﴾ أي: بسبب من الأسباب كإنقاذ من هلكة أو غرق أو دفع من يريد أن يقتلها ظلماً ﴿فكأنما أحيا الناس جميعاً﴾ قال ابن عباس: من حيث عدم انتهاك حرمتها وصونها قال سليمان بن علي: قلت للحسن يأبا سعيد أهي لنا أي: هذه الآية كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي، والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا اه. ومما يحسن إيراده هنا ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنه للشافعيّ رحمه الله تعالى:
*الناس من جهة التمثيل أكفاء | أبوهم آدم والأمّ حوّاء* |
*نفس كنفس وأرواح مشاكلة | وأعظم خلقت فيهم وأعضاء* |
*فإن يكن لهم في أصلهم حسب | يفاخرون به فالطين والماء* |
*ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن استهدى أدلاء* |
*وقدر كل امرىء ما كان يحسنه | وللرجال على الأفعال أسماء* |
*وضدّ كل امرىء ما كان يجهله | والجاهلون لأهل العلم أعداء* |
*ففز بعلم تعش حياً به أبداً | فالناس موتى وأهل العلم أحياء* |
القرآن. ونزل في عيينة بن حصن الفزاري لما أتى النبيّ ﷺ قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه ثم ينسجه فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، أي: كما قال قوم نوح: ﴿أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون﴾ (الشعراء، ١١١)
فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً واجعل لهم مجلساً.
﴿واصبر نفسك﴾، أي: احبسها وثبتها ﴿مع الذين يدعون ربهم﴾ ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه﴾ (الأنعام، ٥٢)
ففي تلك الاية نهي لرسول الله ﷺ عن طردهم، وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم وفي قوله تعالى: ﴿بالغداة والعشيّ﴾ وجوه الأوّل: أنهم مواظبون على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشيّ إلا شتم الناس. الثاني: المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث: أنّ المراد الغداة وهو الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من النوم إلى اليقظة، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة، والعشيّ هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من الحياة إلى الموت ومن اليقظة إلى النوم، والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله تعالى عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه وقرأ ابن عامر بضم الغين المعجمة وسكون الدال وبعدها واو مفتوحة والباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها والرسم في المصحف بالواو هنا وفي سورة الأنعام.
﴿يريدون﴾ بعبادتهم ﴿وجهه﴾ تعالى، أي: رضاه وطاعته لا شيئاً من أعراض الدنيا ﴿ولا تعد﴾، أي: تنصرف ﴿عيناك عنهم﴾ إلى غيرهم وعبر بالعينين عن صاحبهما فنهى ﷺ أن يصرف بصره ونفسه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون وقوله تعالى: ﴿تريد زينة الحياة الدنيا﴾ في موضع الحال، أي: إنك إن فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا. ولما بالغ تعالى في أمره في مجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين بقوله تعالى: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾، أي: جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، أي: عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف ﴿واتبع هواه﴾، أي: في طلب الشهوات ﴿وكان أمره فرطاً﴾، أي: إسرافاً وباطلاً، وهذا يدل على أنّ أشرّ أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، لأنّ ذكر الله تعالى نور وذكر غيره ظلمة لأنّ الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله تعالى وما سواه فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله تعالى فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامّة والإعراض عن الحق هو المراد بقوله تعالى: ﴿أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ والإقبال على الخلق هو المراد بقوله تعالى: ﴿واتبع هواه﴾.
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وأنّ بعضهم
الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين﴾ (الملك: ٥)
فنقول: كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال.
وعن الثاني: بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي: بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة، وفي جواب أبي علي نظر: إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.
وعن الثالث: بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ﷺ لكن بقلة، ولما جاء النبي ﷺ وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة.
وعن الرابع: بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضعف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ؟ فكذلك ههنا.
ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه، وهو قوله تعالى:
﴿فاستفتهم﴾ أي: سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم ﴿أهم أشد﴾ أي: أقوى وأشق وأصعب ﴿خلقاً﴾ أي: من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها ﴿أم من خلقنا﴾ أي: من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب.
تنبيه: في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي: هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله تعالى ﴿لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس﴾ (غافر: ٥٧)
وقوله تعالى ﴿أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها﴾ (النازعات: ٢٧)
وقيل: معنى أم من خلقنا أي: من الأمم الماضية؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل؛ والمعنى: أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب ﴿إنا خلقناهم﴾ أي: أصلهم آدم بعظمتنا ﴿من طين﴾ أي: تراب رخو مهين ﴿لازب﴾ أي: شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك: منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم وقرأ حمزة والكسائي:
﴿بل عجبت﴾ بضم التاء والباقون بفتحها، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب
فتكون عبرته بها أكثر، فقال تعالى: ﴿وحملت الأرض والجبال﴾ أي: التي بها ثباتها حملتهما الريح أو الملائكة أو القدرة من أماكنهما ﴿فدكتا﴾ أي: مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطت ودق بعضها ببعض ﴿دكة واحدة﴾ أي: فصارتا كثيباً مهيلاً بأيسر أمر، فلم يميز شيء منهما عن الآخر بل صارتا في غاية الاستواء، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة، ومثله ﴿أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما﴾ (الأنبياء: ٣٠)
ولم يقل كن وهذا الدك كالزلزلة لقوله تعالى: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ (الزلزلة: ١)
وقوله تعالى: ﴿فيومئذ﴾ منصوب بوقعت وقوله تعالى: ﴿وقعت الواقعة﴾ لابد فيه من تأويل، وهو أن تكون الواقعة صارت علماً بالغلبة على القيامة أو الواقعة العظيمة وإلا فقام القائم لا يجوز إذ لا فائدة فيه، والتنوين في يومئذ للعوض من الجملة تقديره: يوم إذ نفخ في الصور، ونوع تعالى أسماء القيامة بالحاقة والواقعة والقارعة تهويلاً لها.
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي بقوله تعالى: ﴿وانشقت السماء﴾ أي: ذلك الجنس لشدة هول ذلك اليوم، أي: انصدعت وتفطرت، وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: ﴿ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً﴾ (الفرقان: ٢٥)
. ﴿فهي يومئذ واهية﴾ أي: ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش بعدما كانت محكمة يقال: وهي البناء يهي وهياً فهو واه إذا ضعف جداً ويقال: كلام واه، أي: ضعيف وقيل: واهية، أي: متخرّقة مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرّق ومن أمثالهم:
*خل سبيل من وهى سقاؤه | ومن هريق بالفلاة ماؤه* |
*فلا ترمي بي الرجوان إني | أقل القوم من يعني مكاني* |
فإن قيل: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى: ﴿فصعق من في السموات ومن في الأرض﴾ (الزمر: ٦٨)
. فكيف يقال لهم: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ أجيب: من وجهين: الأول: إنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون، والثاني: المراد الذين استثنوا في قوله تعالى: ﴿إلا من شاء الله﴾ (الزمر: ٦٨)
. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالهم أمرها فيندّوا كما تندو الإبل فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا رأوا الملائكة فيرجعوا من حيث جاؤوا. وقيل: على أرجائها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها. وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كله يرجع إلى قول ابن جبير رضي الله عنه ويدل عليه