بالترهيب تنشيطاً لاكتساب ما ينجي وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي بقوله تعالى: ﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي: الطاعات ﴿أن لهم جنات﴾ أي: حدائق ذات شجر ومساكن، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول ﷺ أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة أن يبشر الذين آمنوا ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنؤوا بما أعد لهم، والبشارة: الخبر الصدق السار أوّلاً فإنه يظهر أثر السرور في البشرة لأن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة ولذلك قال الفقهاء: البشارة هو الخبر الأوّل حتى لو قال الرجل لعبيده: من يبشرني بقدوم ولدي فهو حرّ فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ولو قال: من أخبرني عتقوا جميعاً.
فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ ؟ أجيب: بأنّ ذلك ورد على سبيل التهكم كقوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان، ٤٩) وعطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا نفع تام بأس لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا مفردين وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه، وجمع سبحانه وتعالى الجنة لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعلييون، وفي كل واحدة من هذه السبع مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال.l
واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافىء النعم السابقة فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاءً فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى: ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم﴾ (البقرة، ٢١٧) ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها ﴿تجري من تحتها﴾ أي: من تحت أشجارها ومساكنها ﴿الأنهار﴾ كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها، وعن مسروق: أنهار الجنة تجري في غير أخدود، قال الجوهري: الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري، قال البيضاوي: أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: ﴿أنهار من ماء غير آسن﴾ (محمد، ١٥) الآية. اه.
قال التفتازاني: إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى: ﴿أنهار من ماء غير آسن﴾ في الذكر. اه. والنهر بالفتح والسكون: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات، والمراد بالأنهار ماؤها على حذف مضاف أو تسمية للماء باسم مجراه مجازاً وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ (الزلزلة، ٢) ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً﴾ أي: أطعموا من تلك الجنات ثمرة، ومن صلة ﴿قالوا هذا الذي رزقناكم﴾ أي: أطعمنا ﴿من قبل﴾ أي: من قبل هذا في الدنيا جعل الله تعالى ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه
الشام والفرس والأردن؛ لأنها بلاد الخصب والخير والبركة ﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ أي: الحلالات المستلذات من الفواكه والحبوب والألبان والأعسال وغيرها، فأورث تعالى بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال تعالى: ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها﴾ (الأعراف/ ١٣٧).v
﴿فما اختلفوا﴾ أي: هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرائيل في أمر دينهم ﴿حتى جاءهم العلم﴾ أي: جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل مبعث محمد ﷺ مقرين به مجمعين على نبوّته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم، وكانوا يخبرون بمبعثه وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث ﷺ اختلفوا فيه، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وكفر به بعضهم بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة، وأنهم ما اختلفوا في دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها ﴿إن ربك﴾ يا محمد ﴿يقضي بينهم يوم القيامة﴾ أي: الذي هو أعظم الأيام ﴿فيما كانوا﴾ أي: بأفعالهم الجبلية ﴿فيه يختلفون﴾ أي: فيتميز الحق من الباطل والصديق من الزنديق ويسكن كلا داره، واختلف المفسرون فيمن المخاطب بقوله تعالى:
﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب﴾ أي: التوراة ﴿من قبلك﴾ أي: فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، فقيل: هو النبيّ ﷺ في الظاهر، والمراد أمته كقوله تعالى: ﴿يا أيها النبيّ اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين﴾ (الأحزاب، ١) وقوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطنّ عملك﴾ (الزمر، ٤٦). وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله﴾ (المائدة، ١١٦) ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جارة، والذي يدل على صحة ذلك وجوه: الأوّل: قوله تعالى في آخر السورة: ﴿يا أيها الناس﴾ فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أنه ﷺ لو كان شاكاً في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، الثالث: إذا قدر أن يكون شاكاً في نبوّة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار؟ فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه ﷺ إلا أنّ المراد هو الأمّة، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيراً في قلوبهم، وقيل: الخطاب للنبيّ ﷺ على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه ﷺ لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول: يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة، ولهذا قال ﷺ «لا أشك ولا أسأل أحداً منهم»، ونظير هذا قوله للملائكة: ﴿أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون﴾ (سبأ، ٤٠) والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من
دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ. وكما قال تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين﴾ (المائدة، ١١٦)
ثم دعاني بالطعام فقدمته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله ﷺ يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت وأنا أحدثهم سناً: أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه قال فأخذ برقبتي ثم قال: إنّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعليّ وتطيع.
وعن ابن عباس: لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ خرج رسول الله ﷺ حتى صعد الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عديّ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا الصدق قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام فنزلت ﴿تبت﴾ أي: خسرت ﴿يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب﴾ (المسد: ١ ـ ٢)
وفي رواية فخرج رسول الله ﷺ حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي» إلى آخر ما مرّ.
وعن أبي هريرة قال: قام رسول الله ﷺ حين أنزل الله هذه الآية فقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سلي ما شئت من مال لا أغني عنك من الله شيئاً».
وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام: «أنّ قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار ويجعل الصخرة ذهباً فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده فلما سري عنه أخبرهم أن أعطي ما سألوه ولكنه إن أراهم فكفروا عوجلوا، فاختار ﷺ الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة فلما كانت النذارة إنما هي للمشركين، أمر بضدّها لأضدادهم» بقوله تعالى:
﴿واخفض جناحك﴾ أي: لمن غاية اللين وذلك لأنّ الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، وإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما فجعل ذلك مثلاً في التواضع، ومنه قول بعضهم:
*وأنت الشهير بخفض الجناح | فلأنك في رفعه أجدلا* |
أجيب: بوجهين: أحدهما: أن تسميتهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، الثاني: أن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم وهم صنفان صنف: صدّق واتبع رسول الله ﷺ فيما جاء به، وصنف: ما وجد منه إلا التصديق فقط، أما أن يكونوا منافقين أو فاسقين والفاسق والمنافق لا يخفض لهما الجناح فمن على هذا للتبعيض، وإن أريد عموم الإتباع فهي للتبيين واختلف في الواو في قوله تعالى:
﴿فإن عصوك﴾
لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
ثانيها: لما قال تعالى: ﴿والله معكم﴾ (محمد: ٣٥)
وقال تعالى ﴿وأنتم الأعلون﴾ (محمد: ٣٥)
بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. ثالثها لما قال تعالى ﴿فلا تنهوا وتدعوا إلى السلم﴾ (محمد: ٣٥)
وكان معناه لا تسألوا الصلح بل اصبروا فإنكم تسألوا الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت. فكيف قال تعالى: ﴿فتحنا﴾ بلفظ الماضي أجيب من وجهين: أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
ثانيهما: ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له. وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي ﷺ أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه» وقيل: جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر واطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام.
وقال البغوى: ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ أي: قضينا لك قضاءً مبيناً. وقال الضحاك: أي بغير مال وكان الصلح من الفتح. واختلف قول المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى:
﴿ليغفر لك الله﴾ أي: الملك الأعظم. فقال البيضاوي: علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة وقال البغوي: قيل: اللام لام كي معناه ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح. وقال الجلال المحلي: اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب. وقال بعضهم: إنها لام القسم. والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيهاً بلام كي وحذفت النون وردّ هذا: بأنّ اللام لا تكسر وبأنها لا تنصب المضارع، قال ابن عادل: وقد يقال إنّ هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها ولكنه قول مردود. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض الآجل والعاجل ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للمغفرة والثواب ا. هـ قال ابن عادل: وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإنّ اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلل بها فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معللاً بالمغفرة ثم يقول لم يجعل معللاً ا. هـ وقيل غير ذلك والأسلم ما اقتصر عليه الجلال المحلي واختلف أيضاً