هادوا إن استأنفت بقوله تعالى: ﴿ومن الذين﴾ وإلا فللفريقين. وقوله تعالى:
﴿سماعون للكذب﴾ كرره للتأكيد ﴿أكَّالون للسحت﴾ وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال الله تعالى: ﴿يمحق الله الربا﴾ (البقرة، ٢٧٦) والربا باب منه وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، وعن الحسن رحمه الله تعالى: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب وعنه ﷺ «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بضم الحاء والباقون بالسكون.
﴿فإن جاؤك﴾ أي: لتحكم فيهم ﴿فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ هذا تخيير لرسول الله ﷺ واختلفوا هل نسخ هذا التخيير أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: هو محكم ثابت وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكّام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعيّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وقال قوم: يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ (المائدة، ٤٩) وهو قول مجاهد وعكرمة ومرويّ ذلك أيضاً عن ابن عباس وقال: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى: ﴿لا تحلوا شعائر الله﴾ (المائدة، ٢) نسخها قوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ (التوبة، ٥) وقوله تعالى: ﴿فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ (المائدة، ٤٢) نسخها قوله تعالى: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ (المائدة، ٤٩) ومذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ الذمّيين وإن اختلفت ملتهما كيهوديّ ونصرانيّ يجب الحكم بينهما عند الترافع، وكذا الذمي مع المعاهد بخلاف المعاهدين فإنّ الحكم لا يجب بينهما؛ لأنهم لم يلتزموا بأحكامنا ولا التزمنا دفع بعضهم عن بعض فيحمل التخيير على هذا، والآية الأخرى على أهل الذمّة ويعلم من ذلك أنّ الحكم بين الحربيين لا يجب بطريق الأولى ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدّهما وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمه ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعاً ﴿وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً﴾ بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإنّ الله تعالى يعصمك من الناس ﴿وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ أي: بالعدل الذي أمر الله تعالى به ﴿إنّ الله يحب﴾ أي: يثيب ﴿المقسطين﴾ أي: العادلين في الحكم وقوله تعالى:
﴿وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله﴾ استفهام تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أنّ الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي هو عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا منه ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ﴿ثم يتولون﴾ أي: يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم ﴿من بعد ذلك﴾ التحكيم وهذا داخل في حكم التعجب فإنه معطوف على يحكمونك ﴿وما أولئك﴾ أي: السعداء من الله ﴿بالمؤمنين﴾ أي: بكتابهم لإعراضهم عنه أوّلاً أو بك وبه.
﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى﴾ يهدي من الضلالة إلى الحق ﴿ونور﴾ يكشف ما اشتبه عليهم من الأحكام ﴿يحكم بها النبيون﴾ أي: من بني إسرائيل وقوله تعالى: ﴿الذين أسلموا﴾ ذكر على وجه الصفة للأنبياء للتنويه بشأن الصفة دون التخصيص والتمييز؛ لأنهم كلهم بهذه الصفة منقادون لله تعالى وللتنبيه على عظم قدرها
متشابكة لم يتوسطها ما يقطعهما ويفصل بينهما مع سعة الأطراف وتباعد الأكتاف وحسن الهيئات والأوصاف. الصفة الثالثة:
قوله تعالى: ﴿كلتا﴾، أي: كل واحدة من ﴿الجنتين﴾ المذكورتين ﴿آتت أكلها﴾، أي: ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة وهو بمعنى ﴿ولم تظلم﴾، أي: ولم تنقص ﴿منه شيئاً﴾ يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالباً والظلم النقصان تقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني.
تنبيه: كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد ومعرفة يؤكد به مؤنثان معرفتان وإنما إذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك. وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجرّ والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً فقوله تعالى: ﴿آتت أكلها﴾ حمل على اللفظ لأنّ كلتا لفظ مفرد ولو قيل آتتا على المعنى لجاز. الصفة الرابعة: قوله تعالى: ﴿وفجرنا خلالهما نهراً﴾، أي: وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى: ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ (التوبة، ٤٧)
ومنه يقال خللت القوم، أي: دخلت القوم وذلك ليدوم شربهما ويستغنيا عن المطر عند القحط ويزيد بهاؤهما. الصفة الخامسة: قوله تعالى: ﴿وكان له﴾، أي: صاحب الجنتين ﴿ثمر﴾، أي: أنواع من المال سوى الجنتين قال ابن عباس: من ذهب وفضة وغير ذلك من أثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة خاصة، أي: كان مع الجنتين أشياء من الأموال ليكون متمكناً من العمار بالأعوان والآلات وجميع ما يريد وقرأ أبو عمرو وثمر هنا وثمره الآتي بسكون الميم فيهما بعد ضم الثاء المثلثة، وقرأ عاصم بفتح المثلثة والميم فيهما والباقون بضم المثلثة والميم فيهما ذكر أهل اللغة أنّ الضم أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب: وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحرث بن حلزة:
*ولقد رأيت معاشراً
... قد أثمروا مالاً وولدا
وقال النابغة:
*مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
... وما أثمر من مال ومن ولد
﴿فقال﴾، أي: هذا الكافر ﴿لصاحبه﴾، أي: المسلم المجعول مثلاً للفقراء المؤمنين ﴿وهو﴾، أي: صاحب الجنتين ﴿يحاوره﴾، أي: يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا ﴿أنا أكثر منك مالاً﴾ لما ترى من جناتي وثماري، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بالقصر هذا في الوصل، وأمّا في الوقف فبالألف للجميع، وسكن قالون وأبو عمرو والكسائي هاء وهو وضمها الباقون ورقق ورش راء يحاوره ﴿وأعز نفراً﴾، أي: ناساً يقومون معي في المهمات وينفعون عند الضرورات لأنّ ذلك لازم لكثرة المال غالباً وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.
﴿ودخل جنته﴾ بصاحبه يطوف به فيها ويفاخرهُ بها وأفرد الجنة لإرادة الجنس ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة وإشارة
ربنا} أي: كلمة العذاب وهو قوله تعالى ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (هود: ١١٩)
﴿إنا﴾ أي: جميعاً ﴿لذائقون﴾ أي: العذاب بذلك القول ونشأ عنه قولهم:
﴿فأغويناكم﴾ أي: فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ﴿إنا كنا غاوين﴾ أي: ضالين فأحببتم أن تكونوا مثلنا، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية بإغواء غاوٍ فمن أغوى الأول قال الله تعالى:
﴿فإنهم﴾ أي: المتبوعين والأتباع ﴿يومئذ﴾ أي: يوم القيامة ﴿في العذاب مشتركون﴾ أي: كما كانوا مشتركين في الغواية.
﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة والقدرة ﴿كذلك﴾ أي: كما نفعل بهؤلاء ﴿نفعل بالمجرمين﴾ غير هؤلاء أي: نعذبهم التابع منهم والمتبوع ثم وصفهم الله تعالى بقوله:
﴿إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون﴾ أي: يتكبرون عن كلمة التوحيد أو عمن يدعوهم إليها.
﴿ويقولون أئنا﴾ في الهمزتين ما مر ﴿لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون﴾ يعنون محمداً ﷺ ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله تعالى:
﴿بل جاء بالحق﴾ أي: الدين الحق ﴿وصدق المرسلين﴾ أي: صدقهم في مجيئهم بالتوحيد فأتى بما أتى به المرسلون من قبله ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال تعالى:
﴿إنكم لذائقو العذاب الأليم﴾ ثم كأنه قيل: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي الغني عن الضر والنفع أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله تعالى:
﴿وما تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ أي: جزاء عملكم وقوله تعالى:
﴿إلا عباد الله المخلصين﴾ أي: المؤمنين استثناء منقطع، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام بعد الخاء أي: إن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله، والباقون بالكسر أي: إنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى وقوله:
﴿أولئك لهم﴾ أي: في الجنة ﴿رزق معلوم﴾ أي: بكرة وعشياً بيان لحالهم وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشية، وقيل: معلوم الصفة أي: مخصوص بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر، وقيل معناه: أنهم يتقينون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع، وقيل: معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى وقوله:
﴿فواكه﴾ يجوز أن يكون بدلاً من رزق، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: ذلك الرزق فواكه وفي الفواكه جمع فاكهة قولان:
أحدهما: أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فعلى سبيل التلذذ.
والثاني: أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى أي: لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.
﴿وهم مكرمون﴾ أي: في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال لا كما عليه رزق الدنيا.
ولما ذكر مأكلهم ذكر مسكنهم بقوله تعالى:
﴿في جنات النعيم﴾ أي: في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو متعلق بمكرمون أو خبر ثان لأولئك أو حال من المستكن في مكرمون وقوله تعالى:
﴿على سرر متقابلين﴾ أي: لا يرى بعضهم قفا بعض حال، ويجوز أن يتعلق على سرر بمتقابلين، ولما ذكر سبحانه وتعالى المأكل والمسكن ذكر بعد ذلك صفة
ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى: ﴿وأما من أوتي كتابه﴾ أي: صحيفة حسابه ﴿بشماله فيقول﴾ أي: لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها ﴿يا ليتني﴾ تمنياً للمحال ﴿لم أوت﴾ أي: من أي مؤت ما. ﴿كتابيه﴾ أي: هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. ﴿ولم﴾ أي: ويا ليتني لم ﴿أدر ما﴾ حقيقة ﴿حسابيه﴾ من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا.
ثم يتمنى الموت ويقول: ﴿يا ليتها﴾ أي: الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة ﴿كانت القاضية﴾ أي: القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه: يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر:
*وشر من الموت الذي إن لقيته | تمنيت منه الموت والموت أعظم* |
﴿هلك عني سلطانيه﴾ أي: ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرة الملقب بالعضد، إنه لما قال:
*عضد الدولة وابن ركنها | ملك الأملاك غلاب القدر* |
ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال فما يقال له؟ أجيب: بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد ﴿خذوه﴾ أي: أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم ﴿فغلوه﴾ أي: اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه إلى وراء قفاه إلى ناصيته.
﴿ثم الجحيم﴾ أي: النار العظمى التي تحجم على من يريد دفاعها ويحجم عنها من رآها، لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد ﴿صلوه﴾ أي: بالغوا في تصليته إياها وكرروها بغمسة في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى؛ لأنه كان يتعاظم على الناس فناسب أن يصلى أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها فقال مؤذناً بعدم الخلاص، وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم ولذلك قال الزمخشري: ثم لا يصلوه إلا الجحيم. قال أبو حيان: وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النجاة، اه.
لكن كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
﴿ثم في سلسلة﴾ أي: عظيمة جداً، وقوله تعالى: ﴿ذرعها سبعون ذراعاً﴾ يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك، فتدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل: تدخل من فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان