حيث وصف بها عظيم كما وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان فإنّ أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وقوله تعالى: ﴿للذين هادوا﴾ متعلق بأنزل أو بيحكم أي: يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدلّ على أنّ النبيين أنبياؤهم وقوله تعالى: ﴿والربَّانيون﴾ أي: الزهّاد الذين انسلخوا من الدنيا وبالغولوا فيما يوجب النسبة إلى الرّب ﴿والأحبار﴾ أي: العلماء السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون ﴿بما﴾ أي: بسبب الذي ﴿استحفظوا﴾ أي: استودعوه ﴿من كتاب الله﴾ أي: استحفظهم الله تعالى إياه بأن يحفظوه من التضييع والتحريف أو بأن يحفظ فلا ينسى وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتاب الله من هذين الوجهين معاً: أحدهما: أن يحفظ في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني: أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه والراجع إلى ما محذوف، ومن للتبيين والضمير في استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً وكذلك الضمير في قوله تعالى: ﴿وكانوا عليه شهداء﴾ أي: رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً وقوله تعالى: ﴿فلا تخشوا الناس واخشونِ﴾ نهي للحكام أن يخشوا غير الله تعالى في حكوماتهم خوفاً من سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ﴿ولا تشتروا﴾ أي: تستبدلوا ﴿بآياتي﴾ أي: بأحكامي التي أنزلتها ﴿ثمناً قليلاً﴾ أي: من الرشا وغيرها لتكتموا أو تبدلوها كما فعل أهل الكتاب وقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ قال عكرمة: معناه ومن لم يحكم بما أنزل الله
جاحداً له فقد كفر ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق فحمل الآيات على هذا وهو ظاهر، وقال الضحاك وقتادة: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة وقيل: أولئك هم الكافرون في المسلمين لاتصالها بخطابهم والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى.
﴿وكتبنا﴾ أي: فرضنا ﴿عليهم﴾ أي: اليهود ﴿فيها﴾ أي: التوراة ﴿أن النفس﴾ تقتل ﴿بالنفس﴾ إذا قتلتها ﴿والعين﴾ تفقأ ﴿بالعين﴾ أي: بعين من فقأها ﴿والأنف﴾ تجدع ﴿بالأنف﴾ أي: بأنف من جدعه ﴿والأذن﴾ تقطع ﴿بالأذن﴾ أي: بأذن من قطعها ﴿والسنّ﴾ تقلع ﴿بالسنّ﴾ أي: بسنّ من قلعها ﴿والجروح قصاص﴾ أي: يقتص فيها إذا أمكن كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وما لا يمكن فيه القصاص فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مفروض في شرعنا.
وقرأ الكسائي هذه الألفاظ الخمسة وهي: العين بالعين إلى آخرها بالرفع على أنها جمل معطوفة على «أنّ» وما في حيزها باعتبار المعنى، وكأنه قيل: كتبنا عليهم النفس بالنفس والعين بالعين فإنّ الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول أو مستأنفة ووافق الكسائي ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في الجروح فقط والباقون بالنصب في الجميع وسكن نافع الذال من الأذن وقرأ الباقون برفعها.
﴿فمن تصدّق به﴾ أي: القصاص بأن مكن من نفسه ﴿فهو﴾ أي: التصدّق بالقصاص ﴿كفارة له﴾ أي: لما أتاه فلا يعاقب ثانياً في الآخرة وقيل: فمن تصدّق به من أصحاب الحق فالتصدُق به كفارة للمتصدِق يكفر الله تعالى به من سيآته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: تهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به. وقيل: فهو كفارة للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله﴾ أي:
إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظّ له في الآخرة ﴿وهو﴾، أي: والحال أنه ﴿ظالم لنفسه﴾ لاعتماده على ماله والإعراض عن ربه، ثم استأنف بيان ظلمه بقوله تعالى: ﴿قال ما أظنّ أن تبيد﴾، أي: تنعدم ﴿هذه﴾، أي: الجنة ﴿أبداً﴾ لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بجهله ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فأنكر البعث بقوله:
﴿وما أظنّ الساعة قائمة﴾، أي: كائنة استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه وقوله: ﴿ولئن رددت إلى ربي﴾ المحسن إليّ في هذه الدار في الساعة إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وعلى ما يزعم صاحبه أنّ الساعة قائمة ﴿لأجدنّ خيراً منها﴾، أي: من هذه الجنة ﴿منقلباً﴾، أي: مرجعاً لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قال ذلك طمعاً وتمنياً على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه كقوله: أنّ لي عنده الحسنى لأوتين مالاً وولداً.
﴿قال له صاحبه﴾، أي: المؤمن ﴿وهو﴾، أي: والحال أنّ ذلك الصاحب ﴿يحاوره﴾، أي: يراجعه منكراً عليه ﴿أكفرت بالذي خلقك من تراب﴾، أي: خلق أصلك آدم من تراب لأنّ خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له ﴿ثم من نطفة﴾ متولدة من أغذية أصلها تراب هي مادّتك القريبة ﴿ثم سوّاك﴾، أي: عدلك بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة ﴿رجلاً﴾، أي: كملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأنّ منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك ترتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه مرّة قدر على أن يعيده منه، ولما أنكر على صاحبه أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه.
﴿لكنا﴾ أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون وحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها كما قال القائل:
*وترمينني بالطرف، أي: أنت مذنب
... وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
أي لكن أنا لا أقليك. ولما كان سبحانه وتعالى لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال: ﴿هو﴾، أي: الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك ﴿الله﴾، أي: المحيط بصفات الكمال ﴿ربي﴾ وحده لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره وهذا اعتقادي في الماضي والحال. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف بعد النون وقفاً ووصلاً لاتباع المرسوم والباقون بإثبات الألف بعد النون وقفاً وحذفها وصلاً. فإن قيل: قوله لكنا استدراك لماذا؟ أجيب: بأنه لقوله ﴿أكفرت﴾ فكأنه قال لأخيه: أكفرت بالله لكني مؤمن موحد، كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر.
وذكر القفال في قول المؤمن: ﴿ولا أشرك بربي﴾، أي: المحسن إليّ في عبادتي ﴿أحداً﴾ وجوهاً أحدها: أني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى، ولا أكفر عندما ينعم عليّ ولا أرى كثرة الأموال والأعوان من نفسي وذلك لأنّ الكافر لما اغتر بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى. وثانيها: لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبيّن هذا
المشرب بقوله تعالى:
﴿يطاف عليهم﴾ أي: على كل منهم ﴿بكأس﴾ أي: بإناء فيه خمر فهو اسم للإناء بشرابه فلا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب وإلا فهو إناء، وقيل: المراد بالكأس: الخمر كقول الشاعر:
*وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها
أي: رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها، والكأس مؤنثة كما قاله الجوهري، وقوله تعالى ﴿من معين﴾ أي: من شراب معين أو من نهر معين مأخوذ من عين الماء أي: يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي عيناً لظهوره يقال: عان الماء إذا ظهر جارياً وقوله تعالى:
﴿بيضاء﴾ أي: أشد بياضاً من اللبن قاله الحسن صفة لكأس، وقال أبو حيان: صفة لكأس أو للخمر، واعترض بأن الخمر لم يذكر، وأجيب عنه: بأن الكأس إنما سميت كأساً إذا كان فيها الخمر وقوله تعالى ﴿لذة﴾ صفة أيضاً وصفه بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال: فلان جود وكرم إذا كان المراد المبالغة، وقال الزجاج: أو على حذف المضاف أي: ذات لذة وقوله تعالى ﴿للشاربين﴾ أي: بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب صفة للذة، وقال الليث: اللذة واللذيذة يجريان مجرى واحد في النعت يقال: شراب لذ ولذيذ وقوله تعالى:
﴿لا فيها غول﴾ صفة أيضاً، واختلف في الغول فقال الشعبي أي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقال الكلبي: معناه الإثم أي: لا إثم فيها، وقال قتادة: وجع البطن، وقال الحسن: صداع، وقال أهل المعاني الغول: فساد يلحق في خفاء يقال: اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل منها أنواع الفساد منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة ﴿ولا هم عنها ينزفون﴾ أي: يسكرون، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نزف عقله من السكر، والباقون بفتحها من نزف الشارب نزيفاً إذا ذهب عقله أفرده بالذكر وعطفه على ما يعمه؛ لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه.
ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم بقوله تعالى:
﴿وعندهم قاصرات الطرف﴾ أي: حابسات الأعين غاضات الجفون قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن وقوله تعالى ﴿عين﴾ جمع عيناء وهي الواسعة العين والذكر أعين قال الزجاج: كبار الأعين حسانها يقال: رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
﴿كأنهن﴾ أي: في اللون ﴿بيض﴾ للنعام ﴿مكنون﴾ أي: مستور بريشه لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة يقال: هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة مشربة بصفرة قال ذو الرمة في ذلك:
*بيضاء في ترح صفراء في غنج... كأنها فضة قد مسها ذهب*
قال المبرد: والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة، وقال بعضهم: إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء فقال:
*تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى... بهن اختلافاً بل أتين على قدر*
في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال الحسن رضي الله عنه: الله أعلم أيّ ذراع هو، ويحتمل أن يكون مبالغة كما قال تعالى: ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾ (التوبة: ٨٠)
يريد مرات كثيرة؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد.
والذي يدل على هذا ما رواه الترمذي ـ وقال: إسناده حسن ـ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها». وعن كعب رضي الله عنه أنه قال: «لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها». أجارنا الله تعالى ومحبينا منها وجميع المسلمين، فأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال تعالى: ﴿فاسلكوه﴾ أي: أدخلوه بحيث يكون كأنه السلك، أي: الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأنه تلف، قال الزمخشري: والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة لا على تراخى المدة ا. هـ.
ولما ذكر سبحانه على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه فقال تعالى:
﴿إنه كان﴾ أي: جبلة وطبعاً وأن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغبياء ﴿لا يؤمن﴾ أي: الآن ولا في مستقبل الزمان ﴿بالله﴾ أي: الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى ﴿العظيم﴾ أي: الكامل العظم، وهذا تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل: ماله يعذب هذا العذاب الشديد؟ أجيب بذلك وفي قوله تعالى: ﴿ولا يحض﴾ أي: يحث ﴿على﴾ بذل ﴿طعام المسكين﴾ دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له. والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل:
*إذا نزل الأضياف كان عذوّرا | على الحيّ حتى تستقل مراجله* |
والمعنى على بذل طعام المسكين.
ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى: ﴿فليس له اليوم ههنا﴾ أي: في مجمع القيامة كله ﴿حميم﴾ أي: صديق خالص يحميه من العذاب، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال ﴿ولا طعام إلا من غسلين﴾ أي: غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم، فعلين من الغسل ﴿لا يأكله إلا الخاطئون﴾ أي: أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل: إذا تعمد الذنب وهم المشركون، لا من الخطأ المضاد للصواب، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
﴿فلا أقسم﴾ أي: لا يقع مني إقسام {بما