في القصاص وغيره ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ أي: الذين تركوا العدل فضلّوا فصاروا كمن يمشي في الظلام فإن كان تديُّناً بالترك كان نهاية للظلم وهو الكفر وإلا كان عصياناً لأنّ الله تعالى أحق أن يخشى ويرجى.
﴿وقفينا﴾ أي: أتبعنا ﴿على آثارهم﴾ أي: النبيّين الذين يحكمون بالتوراة ﴿بعيسى بن مريم﴾ ﷺ ونسبه تعالى إلى أمّه إشارة إلى أنّه لا والد له تكذيباً لليهود وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى ﴿مصدّقاً لما بين يديه﴾ أي: قبله مما أتى به موسى عليه السلام ﴿من التوراة﴾ وأشار تعالى بقوله: ﴿وآتيناه الإنجيل﴾ أي: أنزلناه عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليهما الصلاة والسلام إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها ﴿فيه هدى﴾ من الضلالة ﴿ونور﴾ أي: بيان للأحكام وقوله تعالى: ﴿ومصدّقاً﴾ أي: الإنجيل حال ﴿لما بين يديه﴾ أي: قبله.
ولما كان الذي نزل قبله كثيراً بين المراد بقوله: ﴿من التوراة﴾ أي: لما فيها من الأحكام فالأول: صفة لعيسى عليه الصلاة والسلام والثاني: صفة لكتابه أي: فهو والتوراة والإنجيل يتصادقون فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما لم يتخالفوا في شيء بل هو متخلق بجميع ما أتى به ﴿وهدى وموعظة للمتقين﴾ أي: كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به.
﴿وليحكم أهل الإنجيل﴾ وهم اتباع عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿بما أنزل الله فيه﴾ أي: من الأحكام، وقرأ حمزة بكسر اللام ونصب الميم عطفاً على معمول آتيناه والباقون بكسر اللام وسكون الميم على الأمر أي: فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم أهل الإنجيل إلخ.. ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾ أي: المختصّون بكمال الفسق فإن كان تديّناً كان كفراً وإن كان لاتّباع الشهوات كان مجرد معصية لأنّ الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج من دائرة الشّرع مرّة بعد أخرى.
﴿وأنزلنا إليك﴾ يا محمد خاصة ﴿الكتاب﴾ أي: الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن وقوله تعالى: ﴿بالحق﴾ متعلق بأنزلنا ﴿مصدّقاً لما بين يديه﴾ أي: قبله.
لما كانت الكتب السماوية من شدّة تصادقها كالشيء الواحد عبّر تعالى بالمفرد فقال: ﴿من الكتاب﴾ أي: الكتب المنزّلة التي جاء بها الأنبياء من قبل، فاللام الأولى في الكتاب للعهد؛ لأنه عني به القرآن والثانية للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة ﴿ومهيمناً عليه﴾ أي: رقيباً على سائر الكتب أي: يحفظها من التغيير والتبديل ويشهد لها بالصحة والثبات ﴿فاحكم بينهم﴾ أي: بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك ﴿بما أنزل الله﴾ إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك ﴿ولا تتبع أهواءهم﴾ فيما خالفه عادلاً ﴿عما جاءك من الحق﴾ بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه.
﴿لكل جعلنا منكم﴾ أيّها الأمم ﴿شرعة﴾ أي: ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية والشرعة هي الطريقة إلى الماء، شبّه بها الدّين لأنها موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ﴿ومنهاجاً﴾ أي: طريقاً واضحاً في الدين ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع وأمثاله مما يدل على أنا لسنا متعبدين بالشرائع المتقدّمة وأنّ كل رسول غير متعبد بشرع من قبله وهو محمول على الفروع وما دلّ على الاجتماع كآية شرع لكم من الدين محمول على الأصول.
﴿ولو شاء الله لجعلكم أمّة﴾
المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها: أنّ هذا الكافر لما عجز الله تعالى عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر:
﴿ولولا إذ﴾، أي: وهلا حين ﴿دخلت جنتك قلت﴾ عند إعجابك بها ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى وهو ﴿ما شاء الله﴾، أي: الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كائن على أنّ ما موصولة، أي: وأي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف، أي: إقراراً بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أهلكها، وقرأ ابن ذكوان وحمزة بالإمالة والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام على شاء أبدل الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، وأظهر إذ عند الدال نافع وابن كثير وعاصم والباقون بالإدغام وهلا قلت: ﴿لا قوّة إلا بالله﴾ اعترافاً بالعجز على نفسك والقدرة لله وأنّ ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونة الله تعالى وإقداره أو لا يقوى أحد في بدنه ولا في غير ذلك إلا بالله. وفي الحديث «من أعطى خيراً من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوّة إلا بالله لم ير فيه مكروهاً» ثم إنّ المؤمن لما أعلم الكافر بالإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفس فقال: ﴿إن ترني أنا أقلّ منك مالاً وولداً﴾ أي: من جهة المال والولد، ويحتمل أن يكون أنا فصلاً وأن يكون تأكيداً للمفعول الأوّل. وقرأ قالون وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً وقوله تعالى:
﴿فعسى ربي﴾، أي: المحسن إليّ ﴿أن يؤتيني﴾ من خزائن رزقه ﴿خيراً من جنتك﴾ إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة لإيماني جواب الشرط ﴿ويرسل عليها﴾، أي: جنتك ﴿حسباناً﴾ جمع حسبانة، أي: صواعق ﴿من السماء فتصبح﴾ بعد كونها قرّة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع ﴿صعيداً زلقاً﴾، أي: أرضاً ملساء باستئصال بنيانها وأشجارها فلا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم وقوله:
﴿أو يصبح ماؤها غوراً﴾، أي: غائراً في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء مصدر وصف به كالزلق ﴿فلن تستطيع﴾ أنت ﴿له﴾، أي: للماء الغائر ﴿طلباً﴾ يصير بحيث لا تقدر على ردّه إلى موضعه، ثم إنه أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدّره هذا المؤمن فقال:
﴿وأحيط﴾، أي: وقعت الإحاطة بالهلاك وبني للمفعول لأنّ النكد حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص والدلالة على سهولته ﴿بثمره﴾، أي: الرجل المشرك كله واستؤصل هالكاً ما في السهل منه وما في الجبل وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر. قال بعض المفسرين: إنّ الله تعالى أرسل عليها ناراً فأهلكتها وغار ماؤها ﴿فأصبح يقلب كفيه﴾ ندماً ويضرب أحداهما على الأخرى تحسراً فتقلب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأنّ النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما يكنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد لأنه في معنى الندم فعدى تعديته كأنه قيل فأصبح يندم ﴿على ما أنفق فيها﴾، أي: في عمارتها ونمائها ﴿وهي خاوية﴾، أي: ساقطة ﴿على عروشها﴾، أي: دعائمها التي كانت تحتها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها. وقوله تعالى: ﴿ويقول﴾ عطف على يقلب أو حال من ضميره ﴿يا﴾ للتنبيه ﴿ليتني﴾ تمنياً لرد ما فاته لحيرته وذهول عقله ودهشته وعدم اعتماده على الله تعالى من غير إشراك بالاعتماد على الفاني {لم أشرك بربي
ويجمع البيض على بيوض قال الشاعر:
*بتيهاء قفر والمطي كأنها | قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها* |
*وما بقيت من اللذات إلا | محادثة الكرام على المدام* |
وقوله تعالى ﴿يتساءلون﴾ حال من فاعل أقبل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ولما ذكر تعالى أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشراب ويتحدثون كان من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله تعالى ثم إنهم تخلصوا منه وهو ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله:
﴿قال قائل منهم﴾ أي: من أهل الجنة في الجنة في مكالمتهم ﴿إني كان لي قرين﴾ أي: في الدنيا ينكر البعث.
﴿يقول أءِنك لمن المصدقين﴾ أي: كان يوبخني على التصديق بالبعث ويقول تعجباً.
﴿أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون﴾ أي: مجزيون ومحاسبون من الدين بمعنى الجزاء وهذا استفهام إنكار.
تنبيه: اختلف في ذلك القرين فقال مجاهد: كان شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخوين، وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار فتقاسماها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه، وقال: كيف ترى حسنها؟ فقال: ما أحسنها ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إن صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحور العين، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار، فتصدق هذا بألفي دينار ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلبه في الجنة، وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه ينطواوس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى ﴿واضرب لهم مثلاً رجلين﴾ (الكهف: ٣٢)
﴿قال﴾ أي: ذلك القائل لإخوته ﴿هل أنتم مطلعون﴾ أي: معي إلى النار لننظر حاله فيقولون: لا.
﴿فاطلع﴾ ذلك القائل من بعض كوى الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار ﴿فرآه﴾ أي: رأى قرينه ﴿في سواء الجحيم﴾ أي: وسط النار وإنما يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه.
﴿قال﴾ له توبيخاً مقسماً بقوله ﴿تالله إن كدت﴾ أي: قاربت وإن مخففة من الثقيلة ﴿لتردين﴾ أي: لتهلكني بإغوائك إياي بإنكار البعث والقيامة.
﴿ولولا نعمة ربي﴾ أي: إنعامه علي بالإيمان والهداية والعصمة ﴿لكنت من المحضرين﴾ معك في النار.
تنبيه: أثبت الياء بعد النون في ﴿لتردين﴾ ورش، والباقون بالتخفيف.
ولما تم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال:
﴿أفما نحن بميتين﴾ وهذا عطف على محذوف أي: أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي: ممن شأنه الموت، وقال بعضهم: إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون
تبصرون} من المخلوقات ﴿وما لا تبصرون﴾ منها، أي: بكل الموجودات واجبها وجائزها؛ معقولها ومحسوسها، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، وقيل: الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسناً، وقيل: لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي.
﴿إنه﴾ أي: القرآن ﴿لقول﴾ أي: تلاوة ﴿رسول﴾ أي: أنا أرسلته به وعني أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي ﴿كريم﴾ أي: على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد ﷺ وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل: هو جبريل عليه السلام، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى: ﴿رسول كريم ذي قوة﴾ (التكوير: ١٩ ـ ٢٠)
واستدل للأول بقوله تعالى: ﴿وما هو بقول شاعر﴾ أي: يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن.
قال مقاتل رضي الله عنه: سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً ﷺ ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فردّ الله تعالى عليهم بذلك.
فإن قيل: كيف يكون كلاماً لله تعالى ولجبريل عليه السلام ولمحمد ﷺ أجيب: بأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فالله سبحانه وتعالى أظهره في اللوح المحفوظ وجبريل عليه السلام بلغه للنبي ﷺ وهو بلغه للأمّة.
﴿قليلاً ما تؤمنون﴾ منصوب نعتاً لمصدر أو زمان محذوف، أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً والناصب يؤمنون وما مزيدة للتأكيد، وقال ابن عطية: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه يؤمنون وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وتتصف بالقلة فهو الإيمان اللغوي لا الشرعي، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً وهو إخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار، وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية.
﴿ولا بقول كاهن﴾ وهو المنجم الذي يخبر عن الأشياء وأغلبها ليس له صحة، وقوله تعالى: ﴿قليلاً ما تذكرون﴾ يأتي فيه ما تقدم في ﴿قليلاً ما تؤمنون﴾ وقال البغوي: أراد بالقليل نفي إسلامهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا وأنت تريد ما تأتينا أصلاً، وقرأ: ﴿قليلاً ما يؤمنون﴾ ﴿قليلاً ما يذكرون﴾ ابن كثير وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية فيهما، والباقون بالفوقية، وخفف الذال حمزة والكسائي وحفص وشددها الباقون.
وقوله تعالى: ﴿تنزيل﴾ خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو تنزيل على وجه التنجيم، قال البقاعي: وأشار إلى الرسالة إلى جميع الخلق من أهل السموات والأرض بقوله تعالى: ﴿من رب العالمين﴾ أي: موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ورتب سبحانه نظمه على وجه سهل على كل منهم يكفي في هدايته ا. هـ. وهذا يدل على أنه ﷺ أرسل للملائكة وهو الذي ينبغي وإن لم يكونوا مكلفين تشريفاً لهم زيادة في شرفه بإرساله ﷺ إليهم.
﴿ولو تقوّل﴾، أي: كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً ﴿علينا﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿بعض الأقاويل﴾ أي: التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها قال الزمخشري: التقوّل افتعال القول لأن فيه