أفناء أي: لم يعلم ممن هم قاله الجوهري: فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار وقد سئل رسول الله ﷺ عنهم فضرب على عاتق سلمان رضي الله تعالى عنه فقال: «هذا وذووه»، ثم قال: «لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» والراجع إلى من محذوف تقديره: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أو ما أشبه ذلك ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظّمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم ومحبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه ﴿أذلة على المؤمنين﴾ أي: عاطفين عليهم متذللين لهم جمع ذليل، وأمّا ذلول فجمعه ذلل ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه لأنه ذلولاً لا يجمع على أذلة.
فإن قيل: هلا قال أذلة للمؤمنين؟ أجيب: بأنه تضمن معنى الحنو والعطف كأنه قال: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع وأنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو للمقابلة في قوله تعالى: ﴿أعزة على الكافرين﴾ أي: شداد متغلبين عليهم من عزّه إذا غلبه، وقوله تعالى: ﴿يجاهدون في سبيل الله﴾ حال من الضمير في أعزة أو صفة أخرى لقوم، وقوله تعالى: ﴿ولا يخافون لومة لائم﴾ يحتمل أن تكون الواو للحال على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط، وإن يكون للعطف على يجاهدون بمعنى: إنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه واللومة المرّة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان ﴿ذلك﴾ إشارة إلى الأوصاف المذكورة وقوله تعالى: ﴿فضل الله يؤتيه من يشاء﴾ أي: يمنحه ويوفق له فيبذل الإنسان جهده في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته ﴿وا واسع﴾ أي: كثير الفضل ﴿عليم﴾ أي: بمن هو أهله، ونزل لما قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إنّ قومنا هجرونا.
﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾ وإنما قال: وليكم ولم يقل: أولياؤكم للتنبيه على أنّ الولاية لله على الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع إذ التقدير: إنما وليكم الله وكذا رسوله والمؤمنون. ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع ثم وصف المؤمنين بقوله تعالى: ﴿الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾ أي: متخشعون في صلاتهم وزكاتهم وقيل: يصلون صلاة التطوع.
﴿ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا﴾ أي: ومن يتخذهم أولياء وقيل: من يعنهم وينصرهم ﴿فإنّ حزب الله هم الغالبون﴾ أي: فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته وتشريفاً لهم بهذا الاسم فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتعريضاً بمن يوالي هؤلاء بأنه حزب الشيطان وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم.
ونزل في رفاعة بن زيد وسويد بن حارث اللذين أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم﴾ أي: شرفكم الله به ﴿هزواً﴾ أي: مهزواً به ﴿ولعباً﴾
اعتباراً بقوله تعالى: ﴿وحشرناهم﴾ والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله تعالى. النوع الثاني قوله تعالى: ﴿وترى الأرض﴾ بكمالها ﴿بارزة﴾ لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى: ﴿لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً﴾ (طه، ١٠٦)
وقيل: إنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فإذا هي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف كما قال تعالى: ﴿وألقت ما فيها وتخلت﴾ (الانشقاق، ٤)
وقال تعالى: ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ (الزلزلة، ٢)
. النوع الثالث قوله تعالى: ﴿وحشرناهم﴾ أي: الخلائق قهراً إلى الوقت الذي تنكشف فيه المخبآت وتظهر القبائح والمغيبات ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير والناقد فيه بصير ﴿فلم نغادر﴾ أن نترك ﴿منهم﴾ أي: الأوّلين والآخرين ﴿أحداً﴾ لأنه لا ذهول ولا عجز، ونظيره قوله تعالى: ﴿قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم﴾ (الواقعة: ٥٠، ٥١)
فإن قيل: لم جيء فحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى؟ أجيب: بأن ذلك يقال للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك. ولما ذكر تعالى حشرهم وكان من المعلوم أنه للعرض ذكر كيفية ذلك العرض فقال بانياً الفعل للمفعول على طريقة كلام القادرين ولأن المخوف العرض لا لكونه من معين
﴿وعرضوا على ربك﴾ المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك، وقوله تعالى: ﴿صفاً﴾ حال أي: مصطفين واختلف في تفسيره على وجوه؛ الأوّل: أن تعرض الخلق كلهم صفاً واحداً لاتساع الأرض ظاهرين لا يحجب بعضهم بعضاً، ثانيها: لا يبعد أن يكونوا صفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي تكون بعضها خلف بعض وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: صفاً صفوفاً كقوله تعالى: ﴿يخرجكم طفلاً﴾ (غافر، ٦٧)
أي: أطفالاً، ثالثها: المراد بالصف القيام كما في قوله تعالى: ﴿فاذكروا اسم الله عليها صواف﴾ (الحج، ٣٦)
أي: قياماً وقيل: كل أمّة صف ويقال لهم: ﴿لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة﴾ أي: فرادى حفاةً عراةً غرلاً وليس المراد حصول المساواة من كل وجه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد ما مرّ ويقال لمنكري البعث: ﴿بل زعمتم أن﴾ أي: أنا ﴿لن نجعل لكم موعداً﴾ أي: مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز لكم ما وعدناكم به على ألسنة رسلنا فكنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار منكرين البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن القيامة والبعث حق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أوّل خلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم، قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم» وفي رواية فأقول: «سحقاً سحقاً» وقوله: غرلاً أي: قلفا الغرلة القلفة التي تنقطع من جلد الذكر وهو موضع الختان وقوله: سحقاً أي: بعداً. قال بعض العلماء: المراد بهؤلاء الذين ارتدوا من العرب بعده، وعن عائشة رضي الله تعالى
فالناس كلهم من نسله عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنه: ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزرج ويأجوج ومأجوج وما هنالك قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم.
﴿وتركنا عليه في الآخرين﴾ أي: أبقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، وقيل: أن نصلي عليه إلى يوم القيامة وقوله تعالى:
﴿سلام على نوح﴾ مبتدأ وخبر وفيه أوجه أحدها: أنه مفسر لتركنا، والثاني: أنه مفسر لمفعوله أي: تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام، وقيل: ثم قول مقدر أي: فقلنا سلام وقيل: ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلط تركنا على ما بعده ﴿في العالمين﴾ متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً وقوله تعالى:
﴿إنا كذلك نجزي المحسنين﴾ تعليل لما فعل بنوح عليه السلام من التكرمة بأنه مجازاة له أي: إنما خصصناه بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن ترقية ذكره الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً وقوله تعالى:
﴿إنه من عبادنا المؤمنين﴾ تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره.
﴿ثم أغرقنا الآخرين﴾ كفار قومه.
القصة الثانية: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿وإن من شيعته﴾ أي: ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة ﴿لإبراهيم﴾ ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً، وقال الكلبي: الضمير يعود على محمد ﷺ أي: وإن من شيعة محمد ﷺ لإبراهيم عليه الصلاة السلام والشيعة قد تطلق على المتقدم كقول القائل:

*ومالي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهب» *
فجعل آل أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له قاله الفراء، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر قالوا: كان بين نوح وإبراهيم نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري: أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة وفي العامل في قوله تعالى:
﴿إذ جاء ربه﴾ وجهان أحدهما: اذكر مقدراً وهو المعروف، والثاني: قال الزمخشري: ما في معنى الشيعة من معنى المشايعة يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه ورد هذا أبو حيان قال: لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لإبراهيم؛ لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ، واختلف في قوله عز وجل ﴿بقلب سليم﴾ فقال مقاتل والكلبي: المعنى أنه سليم من الشرك؛ لأنه أنكر على قومه الشرك، وقال الأصوليون: معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية وقوله تعالى:
﴿إذا قال لأبيه وقومه﴾ بدل من إذ الأولى أو ظرف لسليم أو لجاء وقوله تعالى لهم: ﴿ماذا﴾ أي: ما الذي ﴿تعبدون﴾ استفهام توبيخ تهجين لتلك الطريقة تقبيحها وفي قوله:
﴿أئفكا آلهة دون الله تريدون﴾ أوجه من الإعراب أحدها: أنه مفعول من أجله أي: أتريدون آلهة دون الله إفكاً فآلهة مفعول به ودون ظرف لتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها وحسنه كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به
وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقال عكرمة وقتادة رضي الله عنهما: هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ليس يعني به أن مقدار طوله هكذا دون غيره؛ لأن يوم القيامة ليس له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود، ولو كان له آخر لكان منقطعاً.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «قيل: لرسول الله ﷺ يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».
وقيل: معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله تعالى لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة قال عطاء رضي الله عنه: ويفرغ الله تعالى في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وقيل: فيه خمسون موطناً على الكافر، كل موطن ألف سنة وما ورد ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
وروي عن الكلبي أنه قال: يقول الله تعالى: لو وليت حساب ذلك الملائكةُ والإنس والجن وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار. وقال بيان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير كأنه قال: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة: ﴿في يوم كان مقداره ألف سنة﴾ (السجدة: ٥)
أجيب: بأنه يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن عرض كل سماء خمسمائة وما بين أسفل إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله في يوم من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى أعلى العرش.
وقوله تعالى: ﴿فاصبر صبراً جميلاً﴾ متعلق كما قال الرازي: بسأل سائل، لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاء برسول الله ﷺ فأمر بالصبر، والمعنى: جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله تعالى.
وقيل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو، وقال ابن زيد والكلبي رضي الله عنهم: هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال.
﴿إنهم﴾ أي: الكفار ﴿يرونه﴾ أي: ذلك اليوم الطويل أو عذابه ﴿بعيداً﴾ أي: زمن وقوعه لأنهم يرونه غير ممكن، أو يفعلون أفعال من يستبعده ﴿ونراه﴾ أي: لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين ﴿قريباً﴾ سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة، وكل آت قريب، والقريب والبعيد عندنا على حدٍ سواء، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: ﴿يوم تكون السماء﴾ متعلق بمحذوف، أي: يقع فيه من الأهوال ﴿كالمهل﴾ أي: كدردي الزيت، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كالفضة البيضاء في تلونها ﴿وتكون الجبال﴾ أي: التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها ﴿كالعهن﴾ أي: كالصوف في الخفة والطيران بالريح. وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رملاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً منبثاً.


الصفحة التالية
Icon