بتكذيبهم النبيّ ﷺ وكانوا أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية ﴿يد الله مغلولة﴾ أي: هو ممسك يقتر بالرزق، وغلّ اليد وبسطّها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط﴾ (الإسراء، ٢٩) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقولهم بسط اليأس كفيه في صدري فجعلت لليأس الذي هو معنى من المعاني لا من الأعيان كفان.
فإن قيل: قد تقدّم أنّ قوله: ﴿يد الله مغلولة﴾ عبارة عن البخل فما تفعل في قوله تعالى: ﴿غلت أيديهم﴾ ومن حقه أن يطابق ما تقدّمه؟ أجيب: بأنه يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وأنكدهم والمطابقة على هذا ظاهرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم كما قال تعالى: ﴿إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل﴾ (غافر، ٧١) وعلى هذا تكون المطابقة حاصلة من حيث لفظ مغلولة وغلت من حيث ملاحظة أنّ الأصل في القول الشنيع أن يقابل بالدعاء على قائله ﴿ولعنوا﴾ أي: أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ﴿بما قالوا﴾ فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود وإنّ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه جميعاً ﴿ينفق كيف يشاء﴾ أي: هو مختار في إنفاقه يضيق تارة ويوسع أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا اعتراض عليه وقيل: القائل هذه المقالة فنحاص بن عازوراء فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله: أشركهم الله تعالى فيها.
﴿وليزيدنّ كثيراً منهم﴾ أي: ممن أراد الله فتنته ثم ذكر فاعل الزيادة فقال: ﴿ما أنزل إليك من ربك﴾ من القرآن ﴿طغياناً﴾ أي: تمادياً في الجحود ﴿وكفراً﴾ بآيات الله فيزدادون على كفرهم وطغيانهم طغياناً وكفراً مما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء ﴿وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم.
﴿كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله﴾ أي: كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس بالفاء الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وقيل: كلما حاربوا رسول الله ﷺ نصر عليهم، وعن قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس ﴿ويسعون في الأرض فساداً﴾ أي: ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله ﷺ من كتبهم وإثارة الحرب والفتن وهتك المحارم ﴿وا لا يحبّ المفسدين﴾ أي: فلا يجازيهم إلا شراً.b
﴿ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا﴾ أي: بمحمد ﷺ وبما جاء به ﴿واتقوا﴾ أي: الكفر ﴿لكفّرنا عنهم سيآتهم﴾ أي: التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها ﴿ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ مع المسلمين، وفي هذا إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ودلالة على سعة رحمة الله تعالى
وذريته أولياء من دوني} فعلمت أن لا تكون ذرّية إلا من زوجة فقلت: نعم وقال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقيل: إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض البيضة فتنفلق عن جماعة من الشياطين، قال مجاهد من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة والهفاف ومرة وبه يكنى وزلنيور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والأيمان الكاذبة ومدح السلع ونبز وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسم الله ولم يذكر الله دخل معه، وإذا أكل ولم يسم الله أكل معه، قال الأعمش: ربما دخلت البيت ولم أذكر الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا وخاصمتهم ثم اذكر فأقول داسم داسم. وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول الله ﷺ «ذلك شيطان يقال له خترب فإذا أحسسته فتعوّذ بالله واتفل عن يسارك ثلاثاً قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني»، وعن أبيّ بن كعب أن النبي ﷺ قال: «للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء»، وعن جابر قال: قال رسول الله ﷺ «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت»، قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه واختلفوا في عود الضمير في قوله تعالى:
﴿
ما أشهدتهم﴾
على وجوه؛ أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذين اتخذوهم أولياء ﴿خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم﴾ أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: ﴿اقتلوا أنفسكم﴾ (النساء، ٦٦)
نفى إحضار إبليس وذريته خلق السماوات والأرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله تعالى: ﴿وما كنت متخذ المضلين﴾ أي: الذين يضلون الناس ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لإضلالهم وذمّاً لهم ﴿عضداً﴾ أي: أعواناً، وثانيها قال الرازي: وهو الأقوى عندي إن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للنبي ﷺ إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء من عندك فلا تؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على الاقتراح الفاسد قال: والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات فالأقرب في هذه الآية هو أولئك الكفار وهو قوله تعالى: ﴿بئس للظالمين بدلاً﴾ والمراد بالظالمين أولئك الكفار، وثالثها أن يكون المراد من قوله ما أشهدتهم إلى آخره دون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته والشقي من حكم الله بشقاوته
فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى ﴿فألقوه في الجحيم﴾ وهي النار العظيمة قال الزجاج: كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
﴿فأرادوا به كيداً﴾ أي: شراً بإلقائه في النار لتهلكه ﴿فجعلناهم الأسفلين﴾ أي: المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهاناً نيراً على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه برداً وسلاماً وخرج منها سالماً.
﴿وقال إني ذاهب إلى ربي﴾ أي: إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى ﴿وقال إني مهاجر إلى ربي﴾ (العنكبوت: ٢٦)
أي: مهاجر إليه من دار الكفر ﴿سيهدين﴾ أي: إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وهو الشام، وإنما بتّ القول لسبق وعده ولفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال ﴿عسى ربي أن يهديني سواء السبيل﴾ (القصص: ٢٢)
فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
ولما وصل إلى الأرض المقدسة قال:
﴿رب هب لي من الصالحين﴾ أي: هب لي ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة؛ لأن لفظ هب غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى ﴿ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبياً﴾ (مريم: ٥٣)
قال الله تعالى:
﴿فبشرناه بغلام حليم﴾ أي: ذي حلم كثير في كبره غلام في صغره، ففيه بشارة بأنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سن يوصف بالحلم وأي حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال: ﴿ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾ (الصافات: ١٠٢)
وقيل: ما وصف الله تعالى نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام وحالتهما المذكورة تشهد عليه.
﴿فلما بلغ معه السعي﴾ أي: أن يسعى معه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: بلغ معه السعي إي المشي معه إلى الجبل وقال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما شب حتى بلغ سعيه بسعي إبراهيم والمعنى: بلغ أن يتصرف معه وأن يعينه في عمله، وقال الكلبي: يعني العمل لله تعالى وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع سنين.
تنبيه: معه متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلاً قال: مع من بلغ السعي؟ فقيل: مع أبيه ولا يجوز تعلقه ببلغ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حد السعي ولا يجوز تعلقه بالسعي؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه.
وقوله تعالى ﴿قال يا بني إني أرى﴾ أي: رأيت ﴿في المنام أني أذبحك﴾ يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل: إنه رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول له: إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله أم من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية فلما أمسى رأى أيضاً مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ثم رأي مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وهذا قول أكثر المفسرين، وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة وعلى هذا فتقدير اللفظ: أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك.
تنبيه: اختلف في الذبيح فقيل: هو اسحق عليه السلام وبه قال: عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم، وقيل: إسماعيل وبه قال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وغيرهم وهو الأظهر كما قاله البيضاوي؛ لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ولقوله ﷺ «أنا ابن الذبيحين». وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين فتبسم النبي ﷺ فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر
يسأل ﴿والمحروم﴾ أي: الذي لا يسأل، فيحسب غنياً فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل: كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال: أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهنّ. والحكايات عنهم في هذا كثيرة.
﴿والذين يصدّقون﴾ أي: يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجدّدونه كل وقت ﴿بيوم الدين﴾ أي: الجزاء الذي ما مثله يوم وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه على النقير والقمطير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعلمون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدّقون بمجرّد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال.
﴿والذين هم﴾ أي: بجميع ضمائرهم وظواهرهم ﴿من عذاب ربهم﴾ أي: المحسن إليهم لا من عذاب غيره فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه ﴿مشفقون﴾ أي: خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.
﴿إن عذاب ربهم﴾ أي: الذي هم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان ﴿غير مأمون﴾ أي: لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة؛ لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما شاء، ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء.
﴿والذين هم﴾ أي: ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم ﴿لفروجهم﴾ أي: سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً ﴿حافظون﴾ أي: حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله تعالى عنه ﴿إلا على أزواجهم﴾ أي: من الحرائر بعقد النكاح، وقدمهنّ لشرفهنّ وشرف الولد بهنّ، ثم أتبعه قوله تعالى: ﴿أو ما ملكت أيمانهم﴾ أي: من السراري التي هي محل الحرث والنسل واللاتي هن أقل عقلاً من الرجال، ولهذا عبر بما التي هي في الأغلب لغير العقلاء، وفي ذلك إشارة إلى اتساع النطاق في احتمالهن.
﴿فإنهم﴾ أي: بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك ﴿غير ملومين﴾ أي: في الاستمتاع بهن من لائم ما، كما نبه عليه البناء للمفعول، فهم يصحبونهن للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله تعالى، واكتفى في مدحهم بنفي اللوم لإقباله عن تحصيل ما له من المرام.
﴿فمن ابتغى﴾ أي: طلب وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. ﴿وراء ذلك﴾ أي: شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى له، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة وأحسنها وأجملها ﴿فأولئك﴾ أي: الذين هم


الصفحة التالية
Icon