على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى.
فإن قيل: إذا كان المراد السيد عيسى فلِمَ عبّر بما دون من مع أنّ المراد من يعقل؟ أجيب: بأنه أتى بما نظر إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية أو أن المراد كل ما عبد من دون الله تعالى سواء كان ممن يعقل أم لا ﴿وا هو السميع﴾ لأقوالكم ﴿العليم﴾ بأحوالكم فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر والاستفهام للإنكار.
﴿قل يأهل الكتاب﴾ أي: عامّة ﴿لا تغلوا﴾ أي: تجاوزوا الحد ﴿في دينكم﴾ وقوله تعالى: ﴿غير الحق﴾ صفة للمصدر أي: لا تغلوا في دينكم غلوّاً غير الحق أي: غلواً باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوان: حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة فيرفعوا عيسى عليه السلام إلى أن يدّعوا له الإلهية أو يضعوه ويرتابوا فيه، وقيل: الخطاب للنصارى خاصة.
﴿ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل﴾ في غلوهم وهم أسلافهما الذين قد ضلّوا قبل مبعث رسول الله ﷺ في شريعتهم ﴿وأضلوا كثيراً﴾ أي: من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظنّ حقاً ﴿وضلوا﴾ أي: بعد مبعث رسول الله ﷺ ﴿عن سواء السبيل﴾ أي: طريق الحق وهو الإسلام والسواء في الأصل الوسط والأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، قال أبو عبيدة: لم يذكر الهوى إلا في موضع الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال: يريد الخير ويحبه وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال: كل هوى ضلالة.
﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود﴾ أي: لعنهم الله في الزبور على لسان داود وإنّ أهل أيلة لمّا اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وخنازير وقوله تعالى ﴿وعيسى بن مريم﴾ عطف على داود أي: لعنهم الله في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم وهم أصحاب المائدة ما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام: اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبيّ، قال بعض العلماء: إنّ اليهود كانوا يفتخرون بأناس من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية ليدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء ﴿ذلك﴾ أي: اللعن المذكور ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿عصوا وكانوا يعتدون﴾ ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله تعالى:
﴿كانوا لا يتناهون﴾ أي: لا ينهى بعضهم بعضاً ﴿عن منكر﴾ أي: معاودة منكر ﴿فعلوه﴾ أو عن مثل منكر أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤا له وإنما قدر ما ذكر لأنّ التناهي عن منكر قد مضى محال ﴿لبئس ما كانوا يفعلون﴾ أي: يفعلونه والمخصوص بالذم محذوف أي: فعلهم هذا قال بعض المفسرين: فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبثهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
﴿ترى كثيراً منهم﴾ أي: من أهل الكتاب ﴿يتولون الذين كفروا﴾ أي: يوالون المشركين بغضاً لرسول الله ﷺ وللمؤمنين ﴿لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم﴾ من العمل لمعادهم ﴿أن سخط الله عليهم﴾ أي: غضب عليهم ﴿وفي العذاب هم خالدون﴾ أي: دائماً.
المكان الذي فيه البغية وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من الآيات الظاهرة وقوله تعالى: ﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه﴾ (النحل، ١٠٠)
مبين، أن السلطان الحمل على المعاصي وقوله: ﴿وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد كان في هذه القصة خوارق منها حياة الحوت ومنها إيجاد ما كان أكل منه ومنها إمساك الماء عن مدخله وقد اتفق لنبينا ﷺ نفسه وأتباعه ببركته مثل ذلك، أمّا إعادة ما أكل من الحوت المشوي وهو جنبه، فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوّة عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه «أنه ﷺ أتي بشاة مشوية فقال لبعض أصحابه: «ناولني ذراعها» وكان أحب الشاة إلى رسول الله ﷺ فقدّمها ثم قال: «ناولني ذراعها» فناوله ثم قال: «ناولني ذراعها» فقال: يا رسول الله إنما هما ذراعان وقد ناولتك فقال ﷺ «والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك ناولني ذراعاً» فقد أخبر ﷺ أنه لو سكت أوجد الله تعالى ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا، وأمّا حياة الحوت المشوي ففي قصة الشاة المشوية المسمومة أنّ ذراعها أخبر النبي ﷺ أنه مسموم فهذا أعظم من عود الحياة من غير نطق وكذا حنين الجذع وتسليم الحجر وتسبيح الحصى ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً.
وروى البيهقي في «الدلائل» عن عمرو بن سواد قال: قال الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبياً ما أعطى محمداً ﷺ قلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال: أعطى محمد ﷺ إحياء الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين هيئ له المنبر وحنّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك انتهى، وقد ورد أشياء كثيرة من إحياء الموتى له ﷺ ولبعض أمّته، وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا في الصفة عند رسول الله ﷺ فأتته امرأة ومعها ابن لها فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي ﷺ وأمر بجهازه فلما أردنا أن نغسله قال: «ائت أمّه فأعلمها» فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك تطوّعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال: فوالله ما انقضى كلام المرأة حتى حرّك قدميه وألقى الثوب عن وجهه وعاش حتى قبض الله رسول ﷺ وحتى هلكت أمّه، وأمّا آية الماء فمرجعها إلى صلابته ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق، وقد جهز عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جيشاً واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي فحصل لهم حرّ شديد وجهدهم العطش، قال بعض الجيش: فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مدّ يده وما نرى في السماء شيئاً فوالله ما حط يده حتى بعث الله تعالى ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت القدور والشعاب فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدوّنا وقد جاوزنا خليجاً في البحر إلى جزيرة فوقف على الخليج وقال: «يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم» ثم قال: «أجيزوا بسم الله» فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا فأصبنا العدوّ عليه
فقتلنا وأسرنا
منهم سوى الذين قتلتهم وكانت في نفسها غير محصنة، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال: إنها ولدت سبعين ولداً، وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له: مزدكي، وكان له جنينة يعيش منها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا يشرفان عليها يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها،
وكان الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه، وامرأته إزميل تحسده لأجل تلك الجنينة وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال أن تقتله، والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً، ثم أنه اتفق خروج الملك إلى مكان بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته إزميل ذلك فجمعت جمعاً من الناس وأمرتهم أنهم يشهدون على مزدكي أنه سب زوجها لاجب فأجابوها إليه وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة، فأحضرت مزدكي وقالت له: بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينته، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال لها: ما أصبت ولا أبداً نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت أمره بأسوء الجوار قالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها: أوما كان يسعه حلمك فتحفظين جواره؟ قالت: قد كان ما كان فبعث الله إلياس إلى لاجب الملك، وأمره الله أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب عليهم لوليه حين قتلوه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما، يعني: لاجب وامرأته في جوف الجنينة، ثم يضعهما جثتين ملقيين فيها حتى تتفرق عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بها إلا قليلاً، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه، وقال: يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً، وهم بتعذيبه وقتله، فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هارباً، ورجع الملك إلى عبادة بعل وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه، ويقال: أنه بقي سبع سنين شريداً خائفاً يأوي الشعوب والكهوف، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا العيون عليه والله تعالى يستره منهم، فلما طال الأمر على إلياس وطال عصيان
قومه وضاق
بذلك ذرعاً أوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين: يا إلياس ما هذا الخوف الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال: تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني، فأوحى الله تعالى إليه: يا الياس ما هذا اليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها؟ وإنما قوامهما وصلاحهما بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً ولكن سلني فأعطك، قال إلياس: إن لم تمتني فاعطني ثأري من بني إسرائيل، قال الله تعالى: وأي: شيء تريد أن أعطيك؟ قال: تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشئ سحابة عليهم إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي فإنهم لا يذكرهم إلا ذلك، قال الله تعالى: يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا
مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي، ويجوز في قوله تعالى: ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال، أن تكون أن تفسيرية لنذير، وأن تكون مصدرية والكلام فيها كما تقدّم في أختها. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بالضم، والمعنى وحدوا الله ﴿واتقوه﴾ أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء ﴿وأطيعون﴾ أي: لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم واجتناب شبه ترديكم، ففي طاعتي فلأحكم برضا الملك عنكم. وقوله: ﴿يغفر لكم﴾ جواب الأمر، وفي من في قوله: ﴿من ذنوبكم﴾ أوجه أحدها: أنها تبعيضية، الثاني: أنها لابتداء الغاية، الثالث: أنها مزيدة. قال ابن عطية: وهو مذهب كوفي، وردّ بأنّ مذهبهم ليس ذلك لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ولا يشترطون غيره، والأخفش لا يشترط شيئاً، فالقول بزيادتها هنا ماش على قوله لا على قولهم، قاله القرطبيّ، وقيل: لا يصح كونها زائدة لأنّ من لا تزاد في الموجب وإنما هي هنا للتبعيض وهو بعض الذنوب وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.
﴿ويؤخركم﴾ أي: بلا عذاب تأخيراً ينفعكم ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي: قد سماه الله تعالى وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه فيكون موتكم على العادة أو يأخذكم جميعاً، فالأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ليعلم أنّ الإرسال إنما هو مظهر لما قدره في الأزل، ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة والعصيان، وقرأ: ويوخركم ولا يوخر ورش بإبدال الهمزة واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف دون الوصل، والباقون بالهمز.
﴿إنّ أجل الله﴾ أي: الذي له الكمال كله فلا رادّ لأمره ﴿إذا جاء لا يؤخر﴾ أي: إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب، وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى: ﴿إذا جاء أجلهم﴾ (يونس: ٤٩)
لأنه مضروب لهم. ﴿لو كنتم تعلمون﴾ أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً ﴿قال﴾ منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: ﴿رب﴾ أي: يا سيدي وخالقي ﴿إني دعوت﴾ أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة ﴿قومي﴾ أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون ﴿ليلاً ونهاراً﴾ أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. ﴿فلم يزدهم دعائي﴾ أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها ﴿إلا فراراً﴾ أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
﴿وإني كلما﴾ أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات ﴿دعوتهم﴾ أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك ﴿لتغفر لهم﴾ أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم


الصفحة التالية
Icon