ماتت حلت للرجال والنساء.
وأما السائبة فكان الرجل منهم يقول: إن شفيت أو ردّ غائبي فناقتي سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا تركب ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل: كانت الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فإن نتجت بعد ذلك أثنى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع أمّها في الإبل فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمّها فهي البحيرة بنت السائبة.
وأمّا الوصيلة فمن الغنم كانت إذا ولدت سبعة أبطن نظر فإن كان السابع ذكراً ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وقيل: إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وكان ابن الأنثى حراماً على النساء فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعاً.
وأمّا الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال: إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وإذا مات أكله الرجال والنساء.
وروي «أنه ﷺ قال لأكثم الخزاعي: يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أنه أوّل من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: «لا إنك مؤمن وهو كافر» ومعنى ﴿ما جعل الله﴾ أي: ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير ولا التسيب ولا غير ذلك ﴿ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب﴾ في قولهم: إنّ الله أمرنا بها ﴿وأكثرهم لا يعقلون﴾ أنّ ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم كما قال تعالى:
﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا﴾ أي: كافينا ﴿ما وجدنا عليه آباءنا﴾ إذ لا مستند لهم سوى ذلك قال الله تعالى: ﴿أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون﴾ أي: إلى الحق والاستفهام للإنكار أي: أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين. وقرأ هشام والكسائيّ قيل بضم القاف قبل الياء والباقون بالكسر.
﴿يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ أي: احفظوها والزموا إصلاحها ﴿لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ أي: لا يضركم الضالّ إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه».
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه». وفي رواية «لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لهم».
قال أبوعبيدة: خاف الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه يتأوّل الناس الآية غير متأوّلها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف فأعلمهم أنها ليست كذلك، قال أبو ثعلبة الخشني: سألت عن هذه الآية رسول الله ﷺ فقال: «بل ائتمروا بالمعروف
عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد وقدم الأول إشارة إلى علوّ درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل امرئ فقال عاطفاً على ﴿ويجادل الذين كفروا بالباطل﴾ (الكهف، ٥٦)
﴿ويسألونك﴾ أي: اليهود وقيل: مشركو مكة يا أشرف الخلق ﴿عن ذي القرنين﴾ وذكروا في سبب تسميته بذلك وجوهاً، الأول: قال أبو الطفيل سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أمر قومه بتقوى الله تعالى فضربوه على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه الله تعالى فأمرهم بتقوى الله تعالى فضربوه على قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين، فيكم مثله يعني نفسه، الثاني: أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث: أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، الرابع: كان على رأسه ما يشبه القرنين، الخامس: كان لتاجه قرنان، السادس: أنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، السابع: كان له قرنان أي: ضفيرتان، الثامن: أنّ الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهدي النور من أمامه وتمتدّ الظلمة من ورائه، التاسع: أنه لقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً لأنه ينطح أقرانه، العاشر: أنه رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها أي: جانبيها فسمي بذلك لهذا السبب، الحادي عشر: أنه كان له قرنان تواريهما العمامة، الثاني عشر: أنه دخل النور والظلمة، وذكروا في اسمه أيضاً وجوهاً الأول: اسمه مرزبان اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، الثاني: اسمه اسكندر بن فيلفوس الرومي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه أقصى المشرق والمغرب وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الاسكندرية وسماها باسم نفسه، الثالث: شمر بن عمر بن أفريقيس الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وافتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
*قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً
... ملكاً علا في الأرض غير مفند
*بلغ المشارق والمغارب يبتغي
... أسباب ملك من كريم سيد
واختلفوا في نبوّته مع الاتفاق على إيمانه فقال بعضهم: كان نبياً واحتجوا على ذلك بوجوه، الأول: قوله تعالى:
﴿إنا مكنا له في الأرض﴾ وحمل على التمكين في الدنيا والتمكين الكامل في الدين هو النبوّة، الثاني: قوله تعالى: ﴿وآتيناه من كل شيء سبباً﴾ وهذا يدل على أنه تعالى آتاه من النبوّة سبباً، الثالث: قوله تعالى: ﴿يا ذا القرنين إما أن تعذب﴾ الخ والذي يتكلم الله معه لا بد أن يكون نبياً ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة وألبسه الهيبة وقد قالوا: ملك الأرض مؤمنان ذوالقرنين وسليمان وكافران نمروذ وبختنصر ومنهم من قال: إنه كان ملكاً من الملائكة، عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم غفراً أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة، والأكثر على القول الثاني، ويدل له قول عليّ رضي الله تعالى عنه المتقدم.
تنبيه: قد قدّمنا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله ﷺ عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح، والمراد من قوله تعالى: ﴿ويسألونك عن ذي القرنين﴾
افتعال وكذب.
﴿أأنزل عليه﴾ أي: محمد ﷺ ﴿الذكر﴾ أي: القرآن ﴿من بيننا﴾ وليس بأكبرنا ولا أشرفنا وهذا استفهام على سبيل الإنكار لاختصاصه عليه الصلاة والسلام بالوحي وهو مثلهم، وفي ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالواو، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو بخلاف عن ورش وابن كثير بغير إدخال، وعن هشام فيها ثلاثة أوجه: تحقيق الهمزتين، وإدخال ألف بينهما، وتحقيقهما من غير إدخال ألف بينهما، قال الله تبارك وتعالى: ﴿بل هم في شك﴾ أي: تردد محيط بهم مبتدأ لهم ﴿من ذكري﴾ أي: وحيي وما أنزلت لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل الذي لو نظروا فيه لزال هذا الشك عنهم ﴿بل﴾ أي: ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك ﴿لما يذوقوا عذاب﴾ أي: الذي أعددته للمكذبين ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ولصدقوا النبي ﷺ فيما جاء به ولا ينفعهم التصديق حينئذ.
﴿أم﴾ أي: بل ﴿عندهم خزائن﴾ أي: مفاتيح ﴿رحمة﴾ أي: نعمة ﴿ربك﴾ وهي النبوة يعطونها من شاؤوا، ونظيره قوله تعالى ﴿أهم يقسمون رحمة ربك﴾ (الزخرف: ٣٢)
أي: نبوة ربك ﴿العزيز﴾ أي: الغالب الذي لا يغلبه أحد ﴿الوهاب﴾ الذي له أن يهب كل ما يشاء من النبوة أو غيرها لمن يشاء من خلقه.
ولما كانت خزائن الله تعالى غير متناهية كما قال تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه﴾ (الجن: ٢١)
ومن جملته السموات والأرض وما بينهما وهم عاجزون عن هذا القسم قال الله تعالى:
﴿أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما﴾ أي: ليس لهم ذلك فلأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله تعالى أولى، وقوله تعالى: ﴿فليرتقوا في الأسباب﴾ جواب شرط محذوف أي: إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يريدونه وهذا غاية التهكم بهم والتعجيز أو التوبيخ، قال مجاهد: أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سبب واستدل حكماء الإسلام بقوله تعالى: ﴿فليرتقوا في الأسباب﴾ على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله تعالى فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات: أسباباً وهذا يدل على ذلك وقوله تعالى:
﴿جُندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب﴾ خبر مبتدأ مضمر أي: هم قريش جند من الكفار المتحزبين على الرسل عليهم السلام، مهزوم: مكسور عما قريب، فمن أين لهم تدبير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية، فلا تكترث بما تقوله قريش، قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيه محمداً ﷺ وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فقال تعالى: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾ (القمر: ٤٥)
فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم، وقيل: يوم الخندق، قال الرازي: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون مهزومين في مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.
تنبيه: في ما وجهان، أحدهما: أنها مزيدة، والثاني: أنها لجند على سبيل التعظيم للمهزومين وللتحقير، فإن ما الصفة تستعمل لهذين المعنيين، وقد تقدم الكلام
باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى: ﴿فزادوهم﴾ أي: الإنس والجن باستعاذتهم ﴿رهقاً﴾ أي: ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد: الرهق: الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى: ﴿وترهقهم ذلة﴾ (يونس: ٢٧)
وقال الأعشى:

*لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا*
يعني إثماً، وقال مجاهد أيضاً: زادوهم أي: أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن، وقيل: لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن، فكان الرجل مثلاً يقول: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿من الإنس﴾ صفة لرجال وكذا قوله ﴿من الجنّ﴾.
﴿وأنهم﴾، أي: الإنس ﴿ظنوا﴾ والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر ﴿كما ظننتم﴾ أي: أيها الجنّ ويجوز العكس ﴿أن﴾ مخففة أي: أنه ﴿لن يبعث الله﴾ أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿أحداً﴾ أي: بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحداً من الرسل يزيل به عماية الجهل، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.
قال الجن: ﴿وأنا لمسنا السماء﴾ أي: زمن استراق السمع منها. قال الكلبي: السماء الدنيا أي: التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس، واللمس المس فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرّف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها ﴿فوجدناها﴾ في وجد وجهان:
أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قولهم ﴿ملئت﴾ في موضع نصب على الحال على إضمار قد.
والثاني: أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون ﴿حرساً﴾ منصوباً على التمييز، نحو: امتلأ الإناء ماء، والحرس اسم جمع لحارس نحو: خدم لخادم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيراً على أحراس، والحارس الحافظ الرقيب، والمصدر الحراسة و ﴿شديداً﴾ صفة لحرس على اللفظ، ولو جاء على المعنى لقيل شداداً بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شداداً كقولك: السلف الصالح، يعني الصالحين. قال القرطبيّ: ويجوز أن يكون حرساً مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة ﴿وشهباً﴾ جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.
﴿وأنا كنا﴾ أي: فيما مضى ﴿نقعد منها﴾ أي: السماء ﴿مقاعد﴾ أي: كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة ﴿للسمع﴾ أي: أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدُنَّ معها الكذب. ﴿فمن يستمع الآن﴾ أي: في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط ﴿يجد له﴾ أي: لأجله ﴿شهاباً﴾ أي: شعلة من نار ساطعة تحرقه ﴿رصداً﴾ أي: أرصد به ليرمى به.


الصفحة التالية
Icon