وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت الأمر لا بدّ لك منه فعليك نفسك ودع أمر العامة وإن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر وإنّ وراءكم أياماً للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله» قال ابن المبارك وزادني غيره قال: «أجر خمسين منكم».
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ هذه الآية قرئت عنده فقال: إنّ هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه وبسط لعذره وعنه ليس هذا زمان تأويلها قيل: فمتى؟ قال: إذا حال دونها السيف والسوط والحبس.
وروي: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل». وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت: عليكم أنفسكم وعليكم من أسماء الفعل بمعنى الزموا أنفسكم ولذلك نصب أنفسكم ﴿إلى الله مرجعكم جميعاً﴾ الضال والمهتدي ﴿فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ فيجازيكم به، وفي ذلك وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أنّ أحداً لا يؤاخذ بذنب أحد غيره.
﴿يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم﴾ أي: فيما أمرتم شهادة بينكم فشهادة مبتدأ خبره محذوف، قيل: هذه الآية وما بعدها من أشكل آي القرآن حكماً وإعراباً وتفسيراً والمراد بالشهادة الإشهاد بالوصية.
وقيل: المراد بها اليمين بمعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، قال القرطبي: ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور قال تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ (البقرة، ١٨٥) وبمعنى قضى قال تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو﴾ (ال عمران، ١٨) وبمعنى أقرّ قال تعالى: ﴿والملائكة يشهدون﴾ (النساء، ١٦٦) وبمعنى حكم قال تعالى: ﴿وشهد شاهد من أهلها﴾ (يوسف، ٢٦) وبمعنى حلف قال تعالى: ﴿فشهادة أحدهم أربع شهادات﴾ (النور، ٦) وبمعنى وصى قال تعالى: ﴿يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت﴾ أي: أسبابه ﴿حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم﴾ وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليشهد وإضافة شهادة ل «بين» على الاتساع وحين بدل من إذا أو ظرف لحضر واثنان فاعل شهادة أو خبر مبتدأ محذوف أي: الشاهد اثنان ومن فسر الغير بأهل الذمّة جعله منسوخاً فإنّ شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً، وقد اتفق الأكثرون على أنه لا نسخ في سورة المائدة، وعن مكحول نسخها قوله تعالى: ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ (الطلاق، ٢) وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر.
﴿إن أنتم ضربتم﴾ أي: سافرتم ﴿في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت﴾ أي: قاربتم الأجل وقوله تعالى: ﴿تحبسونهما﴾ أي: توقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران ﴿من بعد الصلاة﴾ أي: صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل: أيّ صلاة كانت ﴿فيقسمان﴾ أي: يحلفان ﴿با﴾ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره: إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كانا الوصيين
هو ذلك السؤال، ثم قال الله تعالى: ﴿قل﴾ أي: لهؤلاء المتعنتين ﴿سأتلو﴾ أي: أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان أعلمني الله تعالى به ﴿عليكم﴾ أي: أيها البعداء، والضمير في قوله تعالى: ﴿منه﴾ لذي القرنين وقيل لله تعالى ﴿ذكراً﴾ أي: خبراً كافياً لكم في تعرّف أمره جامعاً لمجامع ذكره
﴿إنا مكنا له في الأرض﴾ أي: مكنا له أمره من التصرّف فيها مكنة يصل بها إلى جميع مسالكها ويظهر بها على سائر ملوكها ﴿وآتيناه﴾ بعظمتنا ﴿من كل شيء﴾ يحتاج إليه في ذلك ﴿سبباً﴾ أي: وصله توصله إليه من العلم والقدرة والآلة
﴿فأتبع سبباً﴾ أي: سلك طريقاً نحو المغرب قال البقاعي: ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر واتبع في المواضع الثلاثة بتشديد التاء الفوقية ووصل الهمزة قبل الفوقية والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية واستمرّ متبعاً له
﴿حتى إذا بلغ﴾ في ذلك السير ﴿مغرب الشمس﴾ أي: موضع غروبها ﴿وجدها تغرب في عين حمئة﴾ أي: ذات حمأة وهي الطين الأسود أي: بلغ موضعاً في الغرب لم يبق بعده شيء من العمران وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة وغروبها في رأي العين كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغرب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر وإلا فهي أكبر من الأرض مرّات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، قال البيضاوي: ولعله بلغ ساحل المحيط فرأى ذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال: وجدها تغرب ولم يقل كانت تغرب، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم. عن أبي درّ قال: كنت رديف رسول الله ﷺ على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين حمئة، وقرأ الباقون بغير ألف بعد الحاء وبعد الميم همزة مفتوحة، واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس: حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر: كيف تقرأ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار وسأله كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة ﴿ووجد عندها﴾ أي: عند تلك العين على الساحل المتصل بها ﴿قوماً﴾ أي: أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب أي: تغرب، قيل: كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما يلفظه البحر كانوا كفاراً فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى ذلك بقوله تعالى: ﴿قلنا يا ذا
القرنين﴾
إما بوّاسطة الملك إن كان نبياً أو بواسطة نبي زمانه إن لم يكن أو باجتهاد في شريعته ﴿إمّا أن تعذب﴾ بالقتل على كفرهم ﴿وإمّا أن تتخذ﴾ أي: بغاية جهدك ﴿فيهم حسناً﴾ بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيره بين القتل والأسر وسماه حسناً في مقابلة القتل ويؤيد الأوّل قوله ﴿قال أمّا من ظلم﴾ باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿فسوف نعذبه﴾ بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق، وقال قتادة كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب المنكر ﴿ثم يردّ إلى ربه﴾ في الآخرة ﴿فيعذبه عذاباً نكراً﴾ أي: شديداً جداً في النار وتقدّم في نكراً سكون الكاف وضمها
﴿وأما من آمن وعمل صالحاً﴾ تصديقاً لما أخبر به من تصديقه
عليها في أوائل البقرة، وهنالك صفة لجند وكذلك مهزوم ومن الأحزاب ثم قال الله تعالى لنبيه ﷺ معزياً له عليه السلام:
﴿كذبت﴾ أي: مثل تكذيبهم ﴿قبلهم قوم نوحٍ﴾ أنث قوم باعتبار المعنى واستمروا على عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام ﴿وعادٌ﴾ سماهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح العقيم ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض وهم لا يذعنون لما دعاهم إليه هود عليه السلام ﴿وفرعونُ ذو الأوتاد﴾ كانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد يشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت، وقال مجاهد: كان يمد الرجل مستلقياً بين أربعة أوتاد على الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، قال السدي: كان يشد الرجل بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات، وقال ابن عباس: ذو البناء المحكم، وقيل: ذو الملك الشديد الثابت، وقال العتبي: تقول العرب: هم في عز ثابت الأوتاد يريدون أنه دائم شديد قال الأسود بن يعقوب:

*ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقال الضحاك: ذو القوة والبطش، وقال عطية: ذو الجموع والجنود الكثيرة لأنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء، والأوتاد جمع وتد وفيه لغات وتد بفتح الواو وكسر التاء وهو الفصحى، ووتد بفتحتين، وودّ بإدغام التاء في الدال.
﴿وثمود﴾ واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ولم يكن في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم ﴿وقوم لوط﴾ أي: الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وفي شقاقهم حتى ضربوا بالعشاء وطمس الأعين ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم ﴿وأصحاب الأيكة﴾ أي: الغيضة، وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام ﴿أولئك الأحزاب﴾ أي: المتحزبون على الرسل عليهم السلام الذين خص الجند المهزوم منهم، وقيل: المعنى أولئك الأحزاب مبالغة في وصفهم بالقوة كما يقال: فلان هو الرجل أي: أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل عليهم العذاب، وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.
﴿إن﴾ أي: ما ﴿كل﴾ أي: من الأحزاب ﴿إلا كذب الرسل﴾ أي: لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم لأن دعوتهم واحدة وهي دعوة التوحيد ﴿فحق عقاب﴾ أي: فوجب عليهم ونزل بهم عذابي.
ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال تعالى:
﴿وما ينظر﴾ وحقرهم بقوله تعالى: ﴿هؤلاء﴾ أي: وما ينتظر كفار مكة ﴿إلا صيحة واحدة﴾ وهي نفخة الصور الأولى، كقوله تعالى: ﴿ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية﴾ (يس: ٥٠)
الآية والمعنى: أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدٌّ لهم يوم القيامة، فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يقطع كل ساعة بحضوره،
تنبيه: اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي ﷺ فقال قوم: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي ﷺ فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب، وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله ﷺ منعت الشياطين ورموا بالشهب، قال الزمخشري: والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية، قال بشر بن أبي حازم:
*والعير يرهقها الغبار وجحشها ينقض خلفها انقضاض الكوكب*
ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال، فلما بعث ﷺ كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: ﴿وأنا كنا نقعد منها مقاعد﴾ ؟ قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي ﷺ وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله ﷺ جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ فقالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال ﷺ «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، فتسأل أهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء». وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل: وهذا قول الأكثرين.
فإن قيل: كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم؟ أجيب: بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي: والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وقيل: الرصد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.
واختلف فيمن قال ﴿وأنا لا ندري﴾ أي: بوجه من الوجوه ﴿أشر أريد﴾ أي: بعدم استراق السمع ﴿بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم﴾ أي: المحسن إليهم المدبر لهم ﴿رشداً﴾ أي: خيراً فقال ابن زيد: معنى الآية أن إبليس قال: لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقاباً أو يرسل إليهم رسولاً. وقيل: هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ ﷺ أي: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد ﷺ إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذَّب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي ﷺ ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض، فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون.
قال الجنّ ﴿وأنا منا الصالحون﴾ أي: العريقون في صفة الصلاح، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن ﴿ومنا دون ذلك﴾ أي: قوم غير صالحين ﴿كنا﴾ أي:


الصفحة التالية
Icon