عمران ﴿وإذ تخرج الموتى﴾ أي: من قبورهم أحياء ﴿بإذني وإذ كففت بني إسرائيل﴾ أي: اليهود ﴿عنك﴾ أي: حين هموا بقتلك وقوله تعالى: ﴿إذ جئتهم﴾ ظرف لكففت ﴿بالبينات﴾ أي: المعجزات ﴿فقال الذين كفروا منهم أن﴾ أي: ما ﴿هذا﴾ الذي جئت به ﴿إلا سحر مبين﴾ أي: بيّن ظاهر، وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء إشارة إلى عيسى عليه السلام، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ولا ألف بعدها إشارة إلى ما جاء به.
﴿وإذا أوحيت﴾ أي: بالإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً ﴿إلى الحواريين﴾ أي: الأنصار ﴿أن﴾ أي: بأن ﴿آمنوا بي وبرسولي﴾ عيسى ﷺ ﴿قالوا آمنا﴾ بهما ﴿واشهد بأننا مسلمون﴾ أي: منقادون أتم انقياد وقوله تعالى:
﴿إذ قال الحواريون﴾ منصوب باذكر. وقيل: ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أنّ ادعاءهم الإخلاص مع قولهم: ﴿يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك﴾ قرأ الكسائي بالتاء على الخطاب وإدغام لام هل فيها على أصله، وفتح الباء الموحدة من ربك أي: هل تستطيع ربك أي: سؤال ربك والمعنى: هل تسأل ذلك من غير صارف؟ وقرأ الباقون بالياء على الغيبة ورفع الباء أي: يجيبك ربك إذا سألته ﴿أن ينزل علينا مائدة﴾ وهي الطعام ويقال أيضاً للخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان: شيء يوضع عليه الطعام للأكل هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين أي: تميل، وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى مفعولة أي: تميد أيدي الآكلين إليها كقولهم: عيشة راضية أي: مرضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقولهم: ﴿من السماء﴾ أي: لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدّمنا من الأمم لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة ﴿قال﴾ عيسى عليه الصلاة والسلام مجيباً لهم ﴿اتقوا الله﴾ أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
﴿قالوا نريد﴾ أي: بسؤالنا من أجل ﴿أن نأكل منها﴾ تبرّكاً لا أكل حاجة وقولهم: ﴿وتطمئن﴾ أي: تسكن ﴿قلوبنا﴾ بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته بيان لمّا دعاهم إلى السؤال وتمهيد عذرهم وقولهم: ﴿ونعلم﴾ أي: نزداد علماً ﴿أن﴾ مخففة أي: إنك ﴿قد صدقتنا﴾ في ادعاء النبوّة وإنّ الله يجيب دعوتنا، وقيل: إنّ عيسى عليه السلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا: ونعلم إن قد صدقتنا في قولك إنا إذا صمنا ثلاثين يوماً لا نسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطانا ﴿ونكون عليها من الشاهدين﴾ إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
﴿قال عيسى بن مريم﴾ لما رأى أنّ لهم غرضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها ﴿اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة﴾ وحقّق موضع الإنزال بقوله: ﴿من السماء تكون﴾ هي أو يوم نزولها ﴿لنا عيداً﴾ نعظمه ونشرفه وقال سفيان: نصلي فيه.
وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل: إنّ عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال: اللهمّ ربنا إلخ.. وقيل: العيد السرور العائد ولذلك سمي
يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم،
وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال الله تعالى: إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها: هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: ناويل وأمم في وسط الأرض منهم الجن والأنس ويأجوج ومأجوج، فقال ذو القرنين: بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، قال الله تعالى: إني سأطوقك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحفظك الظلمة من ورائك فانطلق حتى أتي مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته فمنهم من آمن ومنهم من كفر ومنهم من صدّ عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه وأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ثم أخذ بناحية الأرض اليسرى فأتى ناويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي وسط الأرض فلما كان مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم أي: وهم يأجوج ومأجوج ﴿مفسدون في الأرض﴾ يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلقه الله في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا يشك أنهم سيملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها، وقال الكلبي: فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر
إلا أكلوه
ولا يابساً إلا احتملوه وأدخلوه أرضهم وقد بالغوا ولقوا منهم أذى شديداً وقتلاً، وقيل: فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل: معناه أنهم سيفسدون في الأرض بعد خروجهم ﴿فهل نجعل لك خرجاً﴾ أي: جعلا من المال، وقرأ حمزة والكسائى بفتح الراء وألف بعدها والباقون بسكون الراء ولا ألف بعدها فقيل: هما بمعنى، وقيل: الخرج ما تبرّعت به والخراج ما لزمك ﴿على أن تجعل﴾ في جميع ما ﴿بيننا وبينهم﴾ من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك الله من المكنة ﴿سدّاً﴾ أي: حاجزاً بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة برفع السين والباقون بالنصب،
﴿
قال﴾ لهم ذو القرنين ﴿ما مكّنى فيه ربي﴾ أي: المحسن إليّ مما ترونه من الأموال والرجال والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق ﴿خير﴾ من خراجكم الذي تريدون بذله كما قال سليمان عليه السلام: ﴿فما آتاني الله خير مما آتاكم﴾ (النمل، ٣٦)، وقرأ ابن كثير بنون مفتوحة بعد الكاف وبعدها نون مكسورة والباقون بنون واحدة مكسورة مشدّدة ﴿فأعينوني بقوّة﴾ أي: أني لا أريد المال بل أعينوني بأيديكم وقوّتكم
بالحرس والجنود، قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، وعن ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود فقال: إن هذا قد غصبني بقراً فسأله داود فجحد فقال للآخر: البينة فلم تكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثانية فلم يفعل فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل داود إليه فقال له: إن الله تعالى أوحى إلي أن أقتلك فقال: تقتلني بغير بينة فقال: نعم والله لأنفذن أمر الله تعالى فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت ابن هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى: ﴿وشددنا ملكه﴾ ﴿وآتيناه﴾ أي: بعظمتنا ﴿الحكمة﴾ أي: النبوة والإصابة في الأمور.
واختلف في تفسيره قوله تعالى: ﴿وفصل الخطاب﴾ فقال ابن عباس: بيان الكلام أي: معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير رؤية في ذلك، وقال ابن مسعود والحسن: علم الحكمة والبصر بالقضاء، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به، وقال أبي بن كعب: فصل الخطاب الشهود والإيمان، وقال مجاهد وعطاء ويروى عن الشعبي: إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه، أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه السلام، وقيل غيره كما ذكرته في شرح المنهاج عند قول المنهاج أما بعد، وقيل: هو الخطاب الفصل الذي ليس باختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء وصف كلام النبي ﷺ فصل لا نزر ولا هذر، وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
﴿وهل﴾ استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده ﴿أتاك﴾ يا أفضل الخلق ﴿نبأ﴾ أي: خبر ﴿الخصم﴾ وهو في الأصل مصدر ولذلك يصلح للمفرد والمذكر والمراد به هنا الجمع بدليل قوله تعالى ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿تسوروا﴾ أي: تصعدوا وعلوا ﴿المحراب﴾ أي: البيت الذي كان يدخل فيه داود ويشتغل فيه بالعبادة والطاعة، قال الزمخشري: فإن قلت: بما انتصب إذ؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك أو بنبأ أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله ﷺ لم يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بنبأ؛ لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله ﷺ وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم تكن ناصباً، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا، انتهى. فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف، ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل وقوله تعالى:
﴿إذ﴾ أي: حين ﴿دخلوا على داود﴾ بدل من إذ الأولى أو ظرف لتسوروا، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند التاء في الأول وعند الدال في الثاني ووافقهم ابن ذكوان في الأول والباقون بالإدغام فيهما ﴿ففزع منهم﴾ أي: لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من
القرآن، وقيل: الوحي. وقيل: الموعظة. ﴿نسلكه﴾ أي: ندخله ﴿عذاباً﴾ يكون مظروفاً فيه كالخيط في ثقب الخرزة في غاية الضيق ﴿صعداً﴾ أي: شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً. وقال ابن عباس: هو جبل في جهنم. قال الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أنّ المعنى مشقة من العذاب، لأنّ الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدني في خطبة النكاح، يريد ما شق علي وما غلبني والمشي في الصعود يشق.
وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً الصعود فذاك دأبه أبداً وهو قوله تعالى: ﴿سأرهقه صعوداً﴾ (المدثر: ١٧)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة لإعادة الضمير على الله تعالى والباقون بالنون على الالتفات وهذا كما في قوله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً﴾ (الإسراء: ١٠)
ثم قال: ﴿باركنا حوله لنريه من آياتنا﴾ (الإسراء: ١)
واتفقوا على فتح الهمزة في قوله تعالى:
﴿وأن﴾ أي: وأوحي إليَّ أنّ ﴿المساجد لله﴾ أي: مختصة بالملك الأعظم والمساجد قيل جمع مسجد بالكسر وهو موضع السجود، وقال الحسن: أراد بها كل البقاع لأنّ الأرض جعلت كلها مسجداً للنبيّ ﷺ يقول: «أينما كنتم فصلوا وأينما صليتم فهو مسجد». وقيل: إنه جمع مسجد بالفتح مراداً به الأعضاء الواردة في الحديث: الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان وهو قول سعيد بن المسيب، وابن حبيب.
والمعنى: أنّ هذه الأعضاء أنعم الله تعالى بها عليك فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها، قال ﷺ «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث. وقال ﷺ «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب». قال ابن الأثير: الآراب الأعضاء. وهذا القول اختاره ابن الأنباري. وقيل: بل جمع مسجد وهو مصدر بمعنى السجود ويكون الجمع لاختلاف الأنواع. وقال القرطبي: المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة قال سعيد بن جبير: قالت الجنّ: كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت ﴿وأنّ المساجد لله﴾ أي: بنيت لذكر الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة مساجد لأنّ كل أحد يسجد إليها.
قال القرطبي: والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن عباس، وإضافة المساجد إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم وخص منها المسجد العتيق بالذكر فقال تعالى ﴿وطهر بيتي﴾ (الحج: ٢٦)
وهي وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً قد تنسب إلى غيره تعريفاً قال ﷺ «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وفي رواية: «إن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا». قال القرطبي: وهذا حديث صحيح. وفي حديث سَابَق ﷺ بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، ويقال مسجد فلان لأنه حبسه ولا خلاف بين الأمّة في تحبيس