فيهما أو تحرّك واكتفى بأحد الضدّين عن الآخر ﴿وهو السميع﴾ أي: لكل ما يقال ﴿العليم﴾ أي: بكل ما يفعل فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.
ونزل لما دعي رسول الله ﷺ إلى دين آبائه:
﴿قل﴾ لهم ﴿أغير الله أتخذ ولياً﴾ أي: رباً ومعبوداً وناصراً ومعيناً وهو استفهام ومعناه الإنكار أي: لا أتخذ غير الله ولياً ﴿فاطر السموات والأرض﴾ أي: خالقهما ابتداعاً من غير سبق، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: إني فطرتها أي: ابتدأتها ﴿وهو يطعم﴾ أي: يرزق ﴿ولا يطعم﴾ أي: ولا يرزق، وصف سبحانه وتعالى ذاته بالغني عن الخلق باحتياجهم إليه لأنّ من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه ولا يطعم لاستغنائه عنهم وجب أن يتخذ رباً وناصراً وولياً ﴿قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم﴾ لله من هذه الأمّة لأنّ النبيّ سابق أمّته في الدين والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة بسبب اختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات ﴿ولا تكونن من المشركين﴾ أي: وقيل لي: يا محمد لا تكونن من المشركين أي: في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه ﷺ في سؤالهم أن يكون على دين آبائه وقوله تعالى:
﴿قل إني أخاف إن عصيت ربي﴾ بعبادة غيره ﴿عذاب يوم عظيم﴾ مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب وقوله تعالى:
﴿من يصرف عنه﴾ العذاب ﴿يومئذٍ﴾ أي: يوم القيامة، قرأه أبو بكر وحمزة والكسائيّ بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير لله تعالى والمفعول محذوف، وقرأه الباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول فالضمير للعذاب ﴿فقد رحمه﴾ ربه تعالى أي: أراد به الخير ﴿وذلك﴾ أي: الصرف أو الرحمة ﴿الفوز المبين﴾ أي: النجاة الظاهرة.
﴿وإن يمسسك الله بضر﴾ أي: ببلاء كمرض وفقر والضرّ اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه ﴿فلا كاشف﴾ أي: لا رافع ﴿له إلا هو﴾ لا غيره ﴿وإن يمسسك بخير﴾ أي: بصحة وغنى والخير إسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور وغير ذلك ﴿فهو على كل شيء قدير﴾ من الخير والضر وهذه الآية وإن كانت خطاباً للنبيّ ﷺ فهي عامة لكل أحد والمعنى وإن يمسسك الله بضرّ أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من رفع الضرر وإيصال الخير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أهدي للنبيّ ﷺ بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه فسار بي ملياً ثم التفت إليّ فقال لي: «يا غلام» فقلت: لبيك يا رسول الله قال: «أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف». وفي رواية: «اعلم أنّ النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسراً» «ولن يغلب عسر يسرين». وفي رواية: «فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلق أن ينفعوك بما لم يقضه لك الله لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن
وقرأ نافع بإمالة الهاء والياء بين بين وأمالهما محضة شعبة والكسائي وأمال الهاء محضة أبو عمرو وابن عامر وحمزة، وللسوسي في الياء خلاف في الإمالة محضة والفتح والباقون، وهم ابن كثير وحفص بفتحهما بلا خلاف ولجميع القراء في العين المدّ والتوسط، وقوله تعالى:
﴿ذكر﴾ مبتدأ محذوف الخبر تقديره مما يتلى عليكم أو خبر محذوف المبتدأ تقديره المتلو ذكر أو هذا ذكر ﴿رحمت ربك﴾ وقوله تعالى: ﴿عبده﴾ مفعول رحمة لأنها مصدر بني على التاء لأنها دالة على الوحدة ورسمت بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف بالتاء على الرسم الباقون وقوله تعالى: ﴿زكريا﴾ بيان له.
تنبيه: اعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصص جملة من الأنبياء.
الأولى: هذه القصة وهي قصة زكريا فيحتمل أن المراد من قوله تعالى: ﴿رحمة ربك﴾ أنه عني عبده زكريا في كونه رحمة وجهان: أحدهما: أنه يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعة، والثاني: أن يكون رحمة على نبينا محمد ﷺ لأن الله تعالى لما شرع له ﷺ طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لطفاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة، فكان زكريا رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريا
﴿إذ نادى ربه نداء﴾ مشتملاً على دعاء ﴿خفياً﴾ أي: سراً جوف الليل؛ لأنه أسرع إلى الإجابة وإن كان الجهر والإخفاء عند الله سيان، وقيل: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمن الشيخوخة، وقيل: أسره من مواليه الذين خافهم، وقيل: خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات.
فإن قيل: من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً؟.
أجيب: بوجهين، الأول: أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن صوته كان ضعيفاً لنهاية ضعفه بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى القصد خفياً نظراً إلى الواقع، الثاني: أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى: ﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك﴾ (آل عمران، ٣٩)
وكون الإجابة في الصلاة يدلّ على كون الدعاء فيها فيكون النداء فيها خفياً.
تنبيه: في ناصب إذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ذكر ولم يذكر الحوفي غيره، والثاني: رحمة ولم يذكر الجلال المحلى غيره وذكر الوجهين أبو البقاء، والثالث: أنه بدل من زكريا بدل اشتمال لأن الوقت مشتمل عليه ثم كأنه قيل: ما ذلك النداء؟ فقيل:
﴿قال ربّ﴾ بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب ﴿إني وهن﴾ أي: ضعف جداً ﴿العظم مني﴾ أي: هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها وقوله: ﴿واشتعل الرأس﴾ أي: مني ﴿شيباً﴾ تمييز محوّل عن الفاعل أي: انتشر الشيب في شعره كما ينتشر شعاع النار في الحطب وإني أريد أن أدعوك ﴿ولم أكن بدعائك﴾ أي: بدعائي إياك ﴿رب شقياً﴾ أي: خائباً فيما مضى فلا تخيبني فيما يأتي وإن كان ما أدعو به في غاية البعد في العادة لكنك فعلت مع أبي إبراهيم مثله فهو دعاء وشكر واستعطاف، ثم عطف على قوله: إني وهن قوله:
﴿وإني خفت الموالي﴾ أي: الذين يلوني في النسب كبني العم أن يسيئوا الخلافة ﴿من ورائي﴾ أي: في بعض الزمان الذي بعدي {وكانت
وسلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وثالثها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة. ورابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: ردوها علي وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس. وخامسها: أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وقد نهى النبي ﷺ عن ذبح الحيوان إلا لأكله، وهذه أنواع من الكبائر ينسبونها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها، وخلاصتها: أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب قوله: ﴿وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب﴾ وأن الكفار لما بالغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد ﷺ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ثم ذكر عقبه قصة سليمان عليه السلام فقال تعالى: ﴿ووهبنا لداود سليمان﴾ الآية والتقدير: أنه تعالى قال لمحمد ﷺ يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا: إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً.
قال: والصواب: أن تقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد ﷺ ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أجريها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله: ﴿عن ذكر ربي﴾ ثم إنه عليه السلام أمر بإجرائها وسيرها حتى توارت بالحجاب أي: غابت عن بصره ثم إنه أمر الرابضين أن يردوها فردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك أمور:
الأول: تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسها ويمسح لها سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام والعجب منهم كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة.
قال: فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه فالجواب أن نقول: لفظ الآية لا تدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قطعي ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات من أقوام لا يلتفت إلى أقوالهم والذي ذهبنا إليه قول الزهري وابن كيسان ا. هـ، وقد يجاب من جهة الجمهور أن ما نسبه إليهم ممنوع.
وبيان ذلك أن قوله: إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح يقال: القرينة كافية في ذلك وقوله أنهم جمعوا أنواعاً مذمومة أولها: ترك
عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال القرطبي: واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضاً؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأنّ قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقت.
واختلف هل كان فرضاً على النبيّ ﷺ وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ على ثلاثة أقوال: الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه. الثاني: قول ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قيام الليل فريضة على النبيّ ﷺ والأنبياء قبله. والثالث: قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضاً أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله ﷺ فقالت: «ألست تقرأ يا أيها المزمل، فقلت: بلى. فقالت: فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله ﷺ وأصحابه حولاً وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله عز وجلّ في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوّعاً بعد فريضة» وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب، فقاموا الليل كله، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها: ﴿فاقرؤوا ما تيسر من القرآن﴾ وكان بين الوجوب ونسخه سنة، وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة.
وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت ﴿يا أيها المزمل﴾ كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحواً من سنة. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: مكث النبيّ ﷺ وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين ﴿إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل﴾ فخفف الله تعالى عنهم. وقيل: كان قيام الليل واجباً ثم نسخ بالصلوات الخمس.
والصحيح أنه ﷺ بعث يوم الإثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة، وقيل: ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل: عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين، وقيل: ابن عشر. وقيل: أبو بكر، وقيل: زيد بن حارثة، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه، فأوّل ما فرض عليه ﷺ بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، هذا ما ذكره النووي في روضته.
وقال في فتاويه: بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضاً، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، ثم أمر باستقبال الكعبة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريباً وفرضت الزكاة بعد الصوم، وقيل: قبله، وفي السنة الثانية قيل: في نصف شعبان. وقيل: في رجب حوّلت القبلة، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها ابتدأ ﷺ صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى، ثم فرض الحج سنة ست وقيل: سنة خمس ولم يحج ﷺ بعد الهجرة إلا حجة


الصفحة التالية
Icon