لا يشاء كشفه في الآخرة لأنه لا يبدّل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء ﴿وتنسون﴾ أي: تتركون في تلك الأوقات دائماً ﴿ما تشركون﴾ معه من الأصنام فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضرّ ولا تنفع.
﴿ولقد أرسلنا﴾ رسلاً ﴿إلى أمم من قبلك﴾ أي: قبلك ومن مزيدة فكذبوهم ﴿فأخذناهم بالبأساء﴾ أي: شدّة الفقر ﴿والضرّاء﴾ أي: الأمراض والأوجاع وهما صفتا تأنيث لا مذكر لهم ﴿لعلهم يتضرّعون﴾ أي: يتذللون ويتوبون عن ذنوبهم فيؤمنون.
﴿فلولا﴾ أي: فهلا ﴿إذ جاءهم بأسنا﴾ أي: عذابنا ﴿تضرعوا﴾ أي: لم يفعلوا ذلك مع قيام المقتضى له ﴿ولكن قست قلوبهم﴾ فلم تلن للإيمان ﴿وزين لهم الشيطان﴾ أي: بما أدخل عليهم من باب الشهوات ﴿ما كانوا يعملون﴾ من المعاصي فأصروا عليها.
﴿فلما نسوا﴾ أي: تركوا ﴿ما ذكروا﴾ أي: وعظوا وخوّفوا ﴿به﴾ وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأنّ التارك للشيء معرضاً عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي ﴿فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ أي: من الخيرات والأرزاق والملاذ التي كانت مغلقة عنهم فنقلناهم من الشدّة إلى الرخاء استدراجاً لهم، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا﴾ أي: فرح بطر ﴿أخذناهم﴾ بالعذاب ﴿بغتة﴾ أي: فجأة ﴿فإذا هم مبلسون﴾ أي: متحسرون آيسون من كل خير.
أي: آخرهم بأن استؤصلوا ﴿والحمد رب العالمين﴾ أي: على نصر الرسل وإهلاك الكافرين والعصاة فإنّ إهلاكهم من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها.
﴿قل﴾ أي: لأهل مكة ﴿أرأيتم﴾ أي: أخبروني ﴿إن أخذ الله سمعكم﴾ أي: أصمكم ﴿وأبصاركم﴾ أي: أعماكم ﴿وختم﴾ أي: طبع ﴿على قلوبكم﴾ أي: بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم فلا تعرفون شيئاً ﴿من إله غير الله يأتيكم به﴾ أي: بذلك أو بما أخذ منكم وختم عليه لأنّ الضمير في به يعود على معنى الفعل أو بأحد هذه المذكورات ويجوز أن يعود إلى السمع الذي ذكره أوّلاً ويندرج غيره تحته كقوله تعالى: ﴿وا ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة، ٦٢) فالهاء راجعة إلى الله تعالى ورضا رسول الله ﷺ يندرج في رضا الله تعالى ﴿انظر﴾ الخطاب للنبيّ ﷺ ويدخل فيه غيره أي: انظر يا محمد ﴿كيف نصرّف﴾ أي: نبين لهم الآيات أي: العلامات الدالة على التوحيد والنبوّة ونكررها تارة من جهة المقدّمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدّمين ﴿ثم هم يصدفون﴾ أي: يعرضون عنها فلا يؤمنون.
﴿قل﴾ لهم ﴿أرأيتكم﴾ أي: أخبروني ﴿إن أتاكم عذاب الله بغتة﴾ أي: فجأة ﴿أو جهرة﴾ أي: معاينة ترونه عند نزوله، وقال ابن عباس والحسن: ليلاً ونهاراً ﴿هل يهلك﴾ أي: ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب ﴿إلا القوم الظالمون﴾ أي: المشركون لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك.
﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين﴾ من آمن بالجنة ﴿ومنذرين﴾ من كفر بالنار أي: ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة ﴿فمن آمن﴾ أي: بهم ﴿وأصلح﴾ أي: عمله ﴿فلا خوف عليهم﴾ أي: من العذاب ﴿ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة بفوات الثواب.
﴿والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب﴾ أي: يصيبهم ﴿بما كانوا يفسقون﴾ أي: بسبب خروجهم عن
كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، قال الرازي: وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقوال المذكورة. ثم عقب بالحمل قوله: ﴿فانتبذت به﴾ أي: فاعتزلت به وهو في بطنها حالة ﴿مكاناً قصياً﴾ أي: بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله:
﴿فأجاءها﴾ أي: فأتى بها وألجأها ﴿المخاض﴾ وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ﴿إلى جذع النخلة﴾ وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان وكأنّ تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها فكانت كالعلم لما فيها من العجب لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها لأنها لا تحمل إلا باللقاح من ذكر النخل فحملها بمجرّد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد فكيف إذا كان ذلك في غير وقته، وكانت يابسة مع مالها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك والخرسة بخاء معجمة مضمومة طعام النفساء وهو مراد الجوهري بقوله: طعام الولادة.
قال ابن عباس: الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل: ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل: كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل: كانت مدة حملها ثمانية أشهر وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدّة وعاش، وقيل: ولد لستة أشهر. ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً كان كأنه قيل: يا ليت شعري ما كان حالها؟ فقيل: ﴿قالت﴾ لما حصل عندها من خوف العار ﴿يا ليتني مت﴾ وأشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جارّ ﴿قبل هذا﴾ أي: الأمر العظيم، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي مت بكسر الميم والباقون بالضم ﴿وكنت نسياً﴾ أي: شيئاً من شأنه أن يطرح وينسى ﴿منسياً﴾ أي: متروكاً بالفعل لا يخطر على بالٍ.
فإن قيل: لم قالت ذلك مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام إليها ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين؟.
أجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أنها تمنت ذلك استحياء من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى. الثاني: أنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجر وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر، وعن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً، وعن علي رضي الله عنه يوم الجمل: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال: ليت بلالاً لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث: لعلها قالت ذلك لئلا يقع في المعصية من يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به، وقرأ حفص وحمزة نسياً بفتح النون والباقون بالكسر وقوله تعالى:
﴿فناداها من تحتها﴾ قرأه نافع وحفص وحمزة بكسر من وجر التاء من تحتها والباقون بفتح من ونصب تحتها وأمال ألف ناداها حمزة والكسائى إمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وفي المنادي أوجه.
أحدها: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
ثانيها: أنه جبريل عليه
عليهم ومن خدمتهم، والشيطان كان يذكره النعمة التي كانت عليه والآفات التي حصلت له وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال: مسني الشيطان بنصب وعذاب لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
ثانيها: أنه لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان ليقنطه مرة ويزلزله ليجزع مرة فخاف من خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال: ﴿إني مسني الشيطان﴾.
ثالثها: قيل: إن امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب عليه السلام فاتفق لها أنهم لما استخدموها طلبت بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه فعند ذلك قال: ﴿مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾.
رابعها: روي أنه عليه السلام قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمت أني ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً، فنودي يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق فأخذ أيوب عليه السلام التراب فوضعه على رأسه وقال: منك يا رب ثم خاف من الخواطر الأولى فقال: ﴿مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾ وذكروا أقوالاً أخر في سبب بلائه، منها: أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه، وقيل: كانت مواشيه ترعى في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يعظه، وقيل: أعجب بكثرة ماله وأعلم أن داود وسليمان عليهما السلام كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنعماء وأيوب عليه السلام كان ممن خصه الله بأنواع البلاء والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر من الأنبياء نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان فيهم أكثر بلاء ومحنة من أيوب عليه السلام، فتأمل أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره.
ولما اشتكى أيوب عليه السلام الشيطان وسأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية أجاب الله تعالى له بأن قال له:
﴿اركض﴾ أي: اضرب ﴿برجلك﴾ أي: الأرض فضرب فنبعت عين ماء، فقيل له: ﴿هذا مغتسل باردٌ﴾ أي: ماء تغتسل منه فيبرأ ظاهرك ﴿وشراب﴾ أي: وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه وشرب منه، وأكثر المفسرين قالوا: نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها، وقيل: ضرب الأرض فنبعت له عين ماء فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه.
﴿ووهبنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿له أهله﴾ أي: بأن جعلناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، وقيل: وهبنا له مثل أهله والأول هو ظاهر الآية فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة ﴿ومثلهم معهم﴾ حتى
﴿رسولاً﴾ وهو موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل. قال مقاتل: وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأنّ أهل مكة ازدروا محمداً ﷺ واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أنّ فرعون ازدرى بموسى عليه السلام لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى حكاية عن فرعون: ﴿ألم نربك فينا وليداً﴾ (الشعراء: ١٨)
وذكر الرازي السؤال والجواب. قال ابن عادل: وهو ليس بالقوي لأنّ إبراهيم عليه السلام ولد ونشأ فيما بين قوم نمروذ وكان آزر وزير نمروذ على ما ذكره المفسرون، وكذا القول في هود ونوح وصالح ولوط لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة ﴿أخاهم﴾ لأنه من القبيلة التي بعث إليها انتهى. وقد يقال: الجامع بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام التربية، فإنّ أبا طالب تربى عنده النبيّ ﷺ وموسى عليه السلام تربى عند فرعون ولم يكن ذلك لغيرهما.
﴿فعصى فرعون الرسول﴾ إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه أل العهدية والعرب إذا قدمت اسماً ثم أتوا به ثانياً أتوا به معرفاً بأل أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل أو فأكرمته، ولو قلت فأكرمت رجلاً لتوهم أنه غير الأوّل. وقال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره ولذا اختير في أوّل الكتب سلام عليكم وفي آخرها السلام عليكم.
ثم تسبب عن عصيانه قوله تعالى: ﴿فأخذناه﴾ أي: فرعون بما لنا من العظمة، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله تعالى: ﴿أخذاً وبيلاً﴾ أي: ثقيلاً شديداً، وضرب وبيل وعذاب وبيل، أي: شديد قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه مطر وابل، أي: شديد قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي: ثقيلاً غليظاً ومنه قيل للمطر وابل، وقيل: مهلكاً. والمعنى: عاقبناه عقوبة غليظة، وفي ذلك تخويف لأهل مكة.
ثم خوّفهم بيوم القيامة فقال تعالى: ﴿فكيف تتقون إن كفرتم﴾ أي: توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم إذا كفرتم في الدنيا، والمعنى: لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة. وقيل: معناه: فكيف تتقون العذاب يوم القيامة إذا كفرتم في الدنيا. وقوله تعالى: ﴿يوماً﴾ مفعول تتقون أي: عذابه أي: بأي حصن تتحصنون من عذاب الله يوم ﴿يجعل الولدان﴾ وقوله تعالى ﴿شيباً﴾ جمع أشيب، والأصل في الشين الضم وكسرت لمجانسة الياء، ويقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، وهو مجاز، ويجوز أن يراد في الآية الحقيقة والمعنى: يصيرون شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدّته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام قم: فابعث بعث النار من ذريتك، قال رسول الله ﷺ «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك ـ وفي رواية والخير بين يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار. قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد ﴿وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد﴾ (الحج: ٢)
فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال النبيّ ﷺ أبشروا، فإنّ من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقة في ذراع الحمار ـ وهي بفتح الراء وسكون القاف الأثر