أمّتي بالسنين فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وفي رواية أنه ﷺ سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة «سأله أن لا يسلط على أمّته عدوّاً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك» ﴿انظر﴾ يا محمد ﴿كيف نصرف﴾ أي: نبين لهم ﴿الآيات﴾ الدالة على قدرتنا ﴿لعلهم يفقهون﴾ أي: يعلمون أنّ ما هم عليه باطل فيرجعوا عنه.
﴿وكذب به﴾ أي: القرآن أو العذاب ﴿قومك﴾ أي: الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسرّوا بسيادتك فإنّ القبيلة إذا ساد أحدهم عزت به فإن عزه عزها وشرفه شرفها ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبها مهما أمكنها فإنّ عاره لاحق لها فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع لهم وزاد ذلك بقوله: ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه ﴿الحق﴾ أي: الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله ﴿قل﴾ لهم ﴿لست عليكم بوكيل﴾ أي: حفيظ وكل إلي أموركم فأجازيكم أو أمنعكم من التكذيب إنما أنا منذر والله الحفيظ ﴿لكل نبأ﴾ أي: خبر أخبركم به من هذه الأخبار ﴿مستقر﴾ أي: وقت يقع فيه ويستقرّ ومنه عذابكم ﴿وسوف تعلمون﴾ صحة ذلك عند وقوعه، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة وفي ذلك تهديد لهم.
﴿وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا﴾ أي: القرآن بالاستهزاء والتكذيب ﴿فأعرض عنهم﴾ أي: فاتركهم ولا تجالسهم ﴿حتى يخوضوا في حديث غيره﴾ أي: حتى يكون خوضهم في غير الآيات والاستهزاء بها، وذكر الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن والخطاب للنبيّ ﷺ والمراد غيره ليكون أردع أو لغيره أي: وإذا رأيت أيها الإنسان ﴿وإمّا﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة ﴿ينسينك الشيطان﴾ أي: فقعدت معهم ثم تذكرت ﴿فلا تقعد بعد الذكرى﴾ أي: التذكير لهذا النهي ﴿مع القوم الظالمين﴾ أظهر موضع الإضمار تفهماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض.
وروي أنّ المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس بالمسجد ونطوف فنزل:
﴿وما على الذين يتقون﴾ الله ﴿من حسابهم﴾ أي: الخائضين ﴿من شيء﴾ أي: شيء مما يحاسبون عليه إذا جالسوهم فمن مزيد للتأكيد ﴿ولكن﴾ عليهم ﴿ذكرى﴾ أي: تذكرة لهم ووعظ ويمنعوهم من الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وقال سعيد بن جبير ومقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى: ﴿وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله﴾ (النساء، ١٤) الآية، وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ ولأنه إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكرة والموعظة ﴿لعلهم يتقون﴾ الخوض في الآيات.
﴿وذر الذين اتخذوا دينهم﴾ أي: الذي كلفوه ﴿لعباً ولهواً﴾ باستهزائهم به ﴿وغرّتهم الحياة الدنيا﴾ أي: خدعتهم وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق أي: فاتركهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم وهو قبل الأمر بالقتال ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف ﴿وذكر﴾ أي: وعظ ﴿به﴾ أي: القرآن الناس ﴿أن﴾ أي: كراهة أن ﴿تبسل نفس﴾ أي: تسلم إلى الهلاك ﴿بما كسبت﴾ أي: بسبب ما عملت وأصل الإبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأنّ فريسته
ابن عادل: وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى: ﴿فويل للذين كفروا﴾ أي: شدّة عذاب لهم ﴿من مشهد يوم عظيم﴾ أي: حضور يوم القيامة وأهواله وقوله تعالى:
﴿أسمع بهم وأبصر﴾ أي: بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم ﴿يوم يأتوننا﴾ في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى: ﴿لكن الظالمون﴾ من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم ﴿اليوم﴾ أي: في الدنيا ﴿في ضلال مبين﴾ أي: بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي: اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً، وقيل: معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً ﷺ أن ينذر قومه بقوله:
﴿وأنذرهم﴾ أي: خوّفهم ﴿يوم الحسرة﴾ هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله ﷺ «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع» وفي قوله تعالى: ﴿إذ قضى الأمر﴾ وجوه:
أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب.
ثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف.
ثالثها: قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ ﷺ سئل عن قوله تعالى: ﴿إذ قضي الأمر﴾ فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم» وقوله تعالى: ﴿وهم في غفلة وهم لا يؤمنون﴾ جملتان حاليتان وفيهما قولان؛ أحدهما: أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي: استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني: أنهما حالان من مفعول أنذرهم أي: أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله وأنذرهم اعتراضاً والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّراً به مضمون الكلام السابق فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم: إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين
﴿إنّا نحن﴾ بعظمتنا التي اقتضت ذلك ﴿نرث الأرض﴾ فلا ندع بها شيئاً من عاقل ولا غيره ولما كان العاقل أقوى من غيره صرح به بعد دخوله فقال ﴿ومن عليها﴾ أي: من العقلاء بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم ﴿وإلينا﴾ لا إلى غيرنا ﴿يرجعون﴾ فنجازيهم بأعمالهم.
القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿واذكر في الكتاب إبراهيم﴾ أي: خبره وقرأ هشام إبراهام بألف بعد الهاء والباقون بالياء وإنما أمر الله تعالى نبيه بالذكر لذلك؛ لأنه ﷺ ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلده مشتغلين بالتعليم ومطالعة الكتب فإذا أخبر
له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تبارك وتعالى ولا على صفات ذاته سبحانه مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه، وإذا حملنا الحديث على المنام وإن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال لأن رؤية الباري سبحانه في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي، وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل، وسميت هذه الخصال كفارات؛ لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه وسمي ذلك مخاصمة لما مر في السؤال والجواب المتقدمين وقوله تعالى:
﴿إذ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من إذا الأولى كما قاله الزمخشري، وأن يكون منصوباً باذكر كما قاله أبو البقاء أي: واذكر إذ ﴿قال ربك للملائكة إني خالق﴾ أي: جاعل ﴿بشراً من طين﴾ هو آدم عليه السلام، فإن قيل: كيف صح أن يقول لهم إني خالق بشراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ أجيب: بأنه قد يكون قال لهم: إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم.
﴿فإذا سويته﴾ أي: أتممت خلقه ﴿ونفخت﴾ أي: أجريت ﴿فيه من روحي﴾ فصار حياً حساساً متنفساً وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم والماء في العود الأخضر ﴿فقعوا﴾ أي: خروا ﴿له ساجدين﴾.
﴿فسجد الملائكة﴾ وقوله تعالى: ﴿كلهم أجمعون﴾ فيه تأكيدان، وقال الزمخشري: كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرقين في أوقات، انتهى. فإن قيل: كيف ساغ السجود لغير الله؟ أجيب: بأن الممنوع هو السجود لغير الله تعالى على وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل إلا أن يكون فيه مفسدة فينهى الله تعالى عنه والأولى في الجواب أنه سجود تحية بالانحناء كما قاله الجلال المحلي.
﴿إلا إبليس استكبر﴾ أي: تكبر وتعظم عن السجود، فإن قيل: كيف استثنى من الملائكة عليهم السلام إبليس وهو من الجن؟ أجيب: بأنه قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله تعالى ﴿فسجد الملائكة﴾ ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً وقال الجلال المحلي: هو أبو الجن وكان من الملائكة وعلى هذا فلا سؤال ﴿وكان﴾ أي: وصار ﴿من الكافرين﴾ باستكباره عن أمر الله تعالى أو كان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله تعالى.
تنبيه: المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمداً ﷺ بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
﴿قال﴾ الله تعالى ﴿يا إبليس﴾ سماه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى تحتم العقوبة له ﴿ما منعك أن تسجد﴾ وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله تعالى معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل: ﴿لما خلقت بيدي﴾ أي: توليت خلقه من غير توسط سبب كأب وأم والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة، وقوله
أسلم: كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يصون ثيابه عنها.
وقيل: هو أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. قال ﷺ «إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار» فجعل ﷺ الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد على ما تحته بالنار، فما بالُ رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقال ﷺ «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» وفي رواية «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله ﷺ «لست ممن يصنعه خيلاء».
وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه فكني به عنه ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه كما تقول: أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبيث وإيثار الطهر في كل شيء. وقال عكرمة: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: ﴿وثيابك فطهر﴾ فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

*وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من عنده أتقنع*
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء طاهر الثياب، ويقولون لمن غدر إنه لدنس الثياب. وقال أبيّ بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم البسها وأنت برّ طاهر. وقال الحسن والقرطبي: وخلقك فحسن. وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر. وقال مجاهد وابن زيد: وعملك فأصلح. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول: وعملك أصلح. قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: إنّ فلاناً نجس الثياب. ومنه قوله ﷺ «يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما يعني عمله الصالح والطالح» ذكره الماوردي. وقيل: المراد بالثياب الأهل أي: طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وإزاراً. قال تعالى: ﴿هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ﴾ (البقرة: ١٨٧)
وقيل: المراد به الدين أي: ودينك فطهر جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت الناس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجرّه قالوا: يا رسول الله، فما أولت ذلك؟ قال: الدين».
وقوله تعالى: ﴿والرجز﴾ فسره النبيّ ﷺ بالأوثان ﴿فاهجر﴾ أي: دم على هجره. وقيل: الزاي فيه منقلبة من السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجيهما دليل هذا التأويل قوله تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ (الحج: ٣٠)
وروي عن ابن عباس أنّ معناه: اترك المآثم، وقرأ حفص بضم الراء والباقون بكسرها، وهما لغتان ومعناهما واحد، وقال أبو العالية: الرجز بضم الراء الصنم


الصفحة التالية
Icon