وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف وقوله تعالى: ﴿وهو بكل شيء عليم﴾ أي: مجملاً ومفصلاً فيه تعليل كأنه قال: ولكونه عالماً بكيفية الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليماً فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلا من عالم حكيم رحيم أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداءً وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم. وقرأ حمزة والكسائي ثم استوى وفسوّاهنّ بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ وهو بسكون الهاء، والباقون بضمها، ﴿و﴾ اذكر يا محمد ﴿إذ قال ربك للملائكة﴾ وقيل: إذ زائدة أي: وقال ربك: وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وهو إلا إما يقدّر اذكر وهو الأولى أو تكون إذ مزيدة وإذ وإذا ظرفا توقيت إلا أنّ إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر، قال المبرد: إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى: ﴿وإذ يمكر﴾ (الأنفال، ٣٠) يعني: وإذ مكروا، وإذا جاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى: ﴿إذا جاء نصر الله﴾ (الفتح، ١) أي: سيجيء، وقرأ أبو عمرو بإدغام اللام في الراء بخلاف عنه، والباقون بالإظهار، والملائكة جمع ملك أصله ملاك والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة لأنهم وسايط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو
كالرسل إليهم لتوسط الأنبياء بينهم وبين الناس واختلف
العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة شفافة ويعبرون عنها بنورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والجنّ قادرة على ذلك واستدلوا على ذلك بأنّ الرسل كانوا يرونهم أجساماً لطيفة متشكلة بأشكال مختلفة وزعم الحكماء ـ يعني الفلاسفة ـ أنهم جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة أي: المتصفة بفضائل العلم والعمل، بخلاف الشرّيرة فإنها عندهم: الشياطين البشرية الناطفة. قوله: البشرية وما بعده صفة للنفوس المفارقة للأبدان يعني: ما دامت في الأبدان تسمى النفوس، فإذا فارقتها كانت الملائكة، والمقول له الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل: ملائكة الأرض وذلك أنّ الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجنّ فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجنّ في الأرض فمكثوا فيها دهراً طويلاً ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا فيها فبعث الله تعالى إليهم جنداً من الملائكة يقال له: الجنّ وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومن أشدّهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى شعوب الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى الله تعالى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله
إليه بالطاعة. الثالث: الاستغفار طلب من الله تعالى لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أنّ المؤمن يجب عليه أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة؛ لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه، والاستعانة بفضل الله تعالى تقدم على الاستعانة بسعي النفس، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يرتب عليها من الآثار المطلوبة، ومن المعلوم أنّ المطالب محصورة في نوعين؛ لأنه إنما يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المرادة من قوله تعالى: ﴿يمتعكم متاعاً حسناً﴾ أي: بطيب عيش وسعة رزق ﴿إلى أجل مسمى﴾ وهو الموت. فإن قيل: إنّ النبيّ ﷺ قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر». وقال أيضاً: «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل». وقال تعالى: ﴿ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة﴾ (الزخرف، ٣٣) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدّة والبلية، ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟
أجيب: بأن المشتغل بعبادة الله ومحبته مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكلما كان امعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتمّ كان انقطاعه عن الخلق أتمّ وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه، وأمّا من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، وكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً. ولذلك قال تعالى في صفة المشتغلين بخدمته ﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ (النحل، ٩٧). وقيل: المراد بالمتاع الحسن: عدم العذاب بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. وسمى سبحانه وتعالى منافع الدنيا بالمتاع لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه تعالى على كونها منقضية بقوله تعالى: ﴿إلى أجل مسمى﴾ فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية. وأمّا المنافع الأخروية فقد ذكرها تعالى بقوله تعالى: ﴿ويؤت﴾ أي: في الآخرة ﴿كل ذي فضل﴾ أي: في العمل ﴿فضله﴾ أي: جزاءه؛ لأنّ مراتب السعادات في الآخرة مختلفة؛ لأنها متقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادة الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال تعالى: ويؤت كل ذي فضل فضله. وقال أبو العالية: من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة. وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت سيئاته وحسناته كان من أهل الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت له سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقي له تسع حسنات، ثم يقول ابن مسعود: هلك من غلب آحاده أعشاره. وقوله تعالى: ﴿وإن تولوا﴾ فيه حذف إحدى التاءين، أي:
وإن تعرضوا عما جئتكم به من الهدى ﴿فإني﴾ أي: فقل لهم إني {أخاف

*فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب*
قال الزمخشريّ: والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتاً، ومهبط الوحي عليهم، وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقوله تعالى ﴿وسبحان الله رب العالمين﴾ من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال تعالى تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات.
﴿يا موسى إنه﴾ أي: الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه، وجملة ﴿أنا الله﴾ أي: البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام، مفسرة له، أو المتكلم، وأنا خبر، والله بيان له، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه السلام: أحدهما: ﴿العزيز﴾ أي: الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد، والثاني: ﴿الحكيم﴾ أي: الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير.
فإن قيل: هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى؟ أجيب: بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى، ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى:
﴿وألق عصاك﴾ فألقاها كما مرّ فصارت في الحال، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّاً، ومع كونها في غاية العظم في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد ﴿فلما رآها تهتز﴾ أي: تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر ﴿كأنها جان﴾ أي: حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها ﴿ولى﴾ أي: موسى عليه السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى: ﴿مدبراً﴾ أي: التفت هارباً منها مسرعاً جدّاً لقوله تعالى: ﴿ولم يعقب﴾ أي: لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه.
تنبيه: قال الزمخشري: وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل: له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان: أنه لا يشترط ذلك، ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب: بأنه قيل له ﴿يا موسى لا تخف﴾ أي: منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى: مبشراً بالأمن والرسالة ﴿إني لا يخاف لديّ﴾ أي: عندي ﴿المرسلون﴾ أي: من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، وقوله تعالى.
﴿إلا من ظلم﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطع، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى: ﴿ثم بدّل﴾ أي: بتوبته
لكم نفوذ إلى البواطن. وقرأ الكسائي: بإدغام اللام في الظاء والباقون بالإظهار وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم بقوله تعالى ﴿أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً﴾ أي: ظننتم أنّ العدوّ يستأصلهم ولا يرجعون لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم ما هم في قريش إلا أكلة رأس، فإن قيل: ما الفرق بين حرفي الإضراب أجيب: بأنّ الإضراب الأول إضراب معناه ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوه وإثبات الحسد والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين أي وصفهم بما هو أعمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه ﴿وزين ذلك﴾ أي: الأمر القبيح الذي هو خراب الدنيا ﴿في قلوبكم﴾ حتى قلتموه ﴿وظننتم﴾ أي: بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرّع عنه ﴿ظنّ السوء﴾ أي: الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به وقوله تعالى: ﴿وكنتم قوماً بوراً﴾ جمع بائر أي هالكين عند الله تعالى بهذا الظنّ وهذا بالنظر إلى الجمع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير وثبتوا ولم يرتدّوا.
﴿ومن لم يؤمن﴾ أي: منكم ومن غيركم ﴿بالله﴾ أي: الذي لا موجود على الحقيقة سواه ﴿ورسوله﴾ أي: الذي أرسله لإظهار دينه ﴿فإنا﴾ على مالنا من العظمة ﴿اعتدنا﴾ أي: له هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى معلللاً للحكم بالوصف ﴿للكافرين﴾ إيذاناً بأنه لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر وأعدّ له ﴿سعيراً﴾ أي: ناراً شديدة.
﴿ولله﴾ أي: الملك الأعظم وحده ﴿ملك السموات والأرض﴾ أي: من الجنود وغيرها يدبر ذلك كله كيف يشاء ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ أي: لا اعتراض لأحد عليه لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافئه أحد وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة وعلم من هذا أنّ منهم من يرتدّ فيعذبه ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يسئل عما يفعل وملكه تامّ فتصرفه فيه عدل كيف كان ﴿وكان الله﴾ أي: المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً لم يتجدّد له شيء لم يكن ﴿غفوراً﴾ أي: لذنوب المسيئين ﴿رحيماً﴾ أي: مكرماً ما بعد الستر بما لا تسعه العقول وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام.
﴿سيقول﴾ أي: بوعد لا خلف فيه ﴿المخلفون﴾ أي: الذين تخلفوا عن الحديبية ﴿إذا انطلقتم﴾ أي: سرتم أيها المؤمنون ﴿إلى مغانم لتأخذوها﴾ أي: مغانم خيبر. وذلك أنّ المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من المغانم شيئاً وعدهم الله تعالى فتح خيبر وجعل غنائمها لم شهد الحديبية خاصة عوضاً عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئاً ﴿ذرونا﴾ أي: على أيّ حالة شئتم من الأحوال الدنيئة ﴿نتبعكم﴾ أي: إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المخلفين عن الحديبية حيث قالوا شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في الغنيمة وهنا قالوا ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة ﴿يريدون﴾ أن بذهابهم معكم ﴿أن يبدّلوا كلام الله﴾ أي: يريدون أن يغيروا مواعيد الملك الأعظم لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال مقاتل: يعني أمر الله تعالى لنبيه ﷺ حيث أمره أن لا يسير معه منهم أحد


الصفحة التالية
Icon