تعالى له ولجنده: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه، أي:
جاعله بدلاً
منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم ﷺ لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فبضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكاً كما قال تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً﴾ (الأنعام، ٩) أي: في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمداً ﷺ ليلة المعراج، وقيل: إنه خليفة من سكن الأرض قبله، وقيل: المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضاً وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك ﴿قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها﴾ بالمعاصي ﴿ويسفك الدماء﴾ أي: يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى: ﴿بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ (الأنبياء، ٢٦) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ العصمة
من خواصهم أو قياس لأحد
الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب ﴿ونحن نسبح﴾ متلبسين ﴿بحمدك﴾ أي: نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ (الإسراء، ٤٤) أي: يقول: سبحان الله وبحمده.
روي عن أبي ذرّ: «أنّ رسول الله ﷺ سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» وقيل: ونحن نصلي بأمرك، قال ابن عباس: كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة ﴿ونقدّس لك﴾ ننزهك عما لا يليق بك، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج، والمعنى: أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر، وقيل: نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح
عليكم عذاب يوم كبير} هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف.
﴿إلى الله مرجعكم﴾ أي: رجوعكم في ذلك اليوم فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته ﴿وهو على كل شيء قدير﴾ أي: قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته، ومنه الثواب والعقاب، وفي ذلك دلالة على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف لهذا العبد، والملك القاهر العالي إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك، ومنه المثل المشهور: ملكت فأسحج ()، أي: فاعف، يقول مصنف هذا الكتاب: قد أفنيت عمري في خدمة العلم ومطالعة الكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور. والكريم إذا قدر عفا. فأسألك يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين أن تفيض سجال رحمتك عليّ وعلى والديّ وأولادي وإخواني وأحبابي، وأن تخصني وإياهم بالفضل والتجاوز والجود والكرم. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى:
﴿ألا إنهم يثنون صدورهم﴾ فقال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول الله ﷺ بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره فمعنى قوله تعالى: ﴿يثنون صدورهم﴾ يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة. وقال عبد الله بن شدّاد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله ﷺ ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه النبيّ ﷺ وقال قتادة: كانوا يحنون ظهورهم كي لا يسمعوا كلام الله تعالى ولا ذكره. وروى البخاري عن ابن عباس أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخلى أو يجامع فيفضي إلى السماء. وقيل: كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي. وقال السدي: يثنون صدورهم: أي: يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني ﴿ليستخفوا منه﴾ أي: من الله تعالى بسرهم فلا يطلع رسول الله ﷺ والمؤمنون عليه. وقيل: من رسول الله ﷺ فقد قيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إن أرخينا علينا ستوراً واستغشينا ثياباً وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم ﴿ألا حين يستغشون ثيابهم﴾ أي: يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم ﴿يعلم﴾ تعالى ﴿ما يسرّون﴾ في قلوبهم ﴿وما يعلنون﴾ بأفواههم، أي: أنه لا تفاوت في علمه تعالى بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الإخفاء ﴿إنه﴾ تعالى ﴿عليم بذات الصدور﴾ أي: بالقلوب وأحوالها. ولما أعلم تعالى ما يسرّون وما يعلنون أردفه بما يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله تعالى:
﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ فذكر تعالى أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، والدابة اسم كل حيوان دب على وجه الأرض، ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة وهي الأجناس التي تكون في البرّ والبحر والجبال، والله تعالى عالم بكيفية طباعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها ومساكنها وما يوافقها ويخالفها، فالإله المدبر لأطباق السموات والأرض ولطبائع الحيوانات والنبات كيف لا يكون عالماً بأحوالها
﴿حسناً بعد سوء﴾ وهو الظلم الذي كان عمله أي: جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه السلام ﴿فإني﴾ أرحمه بسبب أني ﴿غفور﴾ أي: من شأني أن أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها ﴿رحيم﴾ أي: أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة، والثاني: أنه استثناء متصل.
وللمفسرين فيه عبارات: قال الحسن: إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وقال غيره: إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، وقال بعض النحويين: إلا ههنا بمعنى ولا، أي: لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى: ﴿لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا﴾ (البقرة: ١٥٠)
أي: ولا الذين ظلموا ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى:
﴿وأدخل يدك في جيبك﴾ أي: فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل: الجيب القميص لأنه يجاب أي: يقطع ﴿تخرج بيضاء﴾ أي: بياضاً عظيماً نيراً جداً له شعاع كشعاع الشمس، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى: ﴿من غير سوء﴾ أي: برص ولا غيره من الآفات، وقوله تعالى ﴿في تسع آيات﴾ كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف، والمعنى: اذهب في تسع آيات ﴿إلى فرعون وقومه﴾ كقول القائل:
*فقلت إلى الطعام فقال منهم | فريق يحسد الأنس الطعاما* |
ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية: ثنتان منها العصا واليد، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وقيل: في بمعنى من أي: من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع، ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله تعالى: ﴿إنهم كانوا قوماً فاسقين﴾ أي: خارجين عن طاعتنا.
﴿فلما جاءتهم آياتنا﴾ أي: على يد موسى عليه السلام ﴿مبصرة﴾ أي: بينة واضحة هادية إلى الطريق الأقوم ﴿قالوا هذا سحر﴾ أي: خيال لا حقيقة له ﴿مبين﴾ أي: واضح في أنه خيال.
أي: أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأنّ الجحود الإنكار مع العلم ﴿واستيقنتها أنفسهم﴾ أي: علموا أنها من عند الله تعالى وتخلل علمها صميم قلوبهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس، ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها بقوله تعالى: ﴿ظلماً وعلواً﴾ أي: شركاء وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ﴿فانظر﴾ يا أشرف الخلق ﴿كيف كان عاقبة المفسدين﴾ وهو الإغراق في الدنيا بأيسر سعي وأيسر أمر، فلم يبق منهم عين تطرف ولم يرجع منهم مخبر على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، والإحراق في الآخرة بالنار المؤبدة. القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى.
﴿ولقد آتينا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿داود وسليمان﴾ ابنه وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة ﴿علماً﴾ أي: جزأ من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير
إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو أنّ النبيّ ﷺ لما تخلف القوم أطلعه الله تعالى على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبيّ ﷺ ﴿فإذا استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً﴾ (التوبة: ٨٣)
وقرأ حمزة والكسائي: بكسر اللام بعد الكاف ولا ألف بعد اللام والباقون بفتح اللام وألف بعدها ﴿قل﴾ يا أشرف الخلق لهؤلاء المبعدين إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك فإنّ غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهمّ قولاً مؤكداً ﴿لن تتبعونا﴾ أي: وإن اجتهدتم في ذلك وساقه مساقه النفي وإن كان المراد به النهي مع كونه آكد ليكون علماً من أعلام النبوّة وهو أزجر وأدل على استهانتهم ﴿كذلكم﴾ أي مثل هذا القول البديع الشأن العالي الرتبة ﴿قال الله﴾ أي: الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا ﴿من قبل﴾ أي: من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية سبب عن قوله لهم ذلك قوله تعالى تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم ﴿فسيقولون﴾ ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله تعالى ﴿بل﴾ إنما قلتم ذلك لأنكم ﴿تحسدوننا﴾ فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء وقرأ هشام وحمزة والكسائي بإدغام اللام في التاء والباقون بالإظهار. ﴿بل كانوا﴾ أي: جبلة وطبعاً ﴿لا يفقهون﴾ أي: لا يفهمون فهم الحاذق الماهر ﴿إلا قليلاً﴾ أي: في أمر دنياهم ومن ذلك اقرارهم باللسان لأجلها، وأمّا أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.
﴿قل﴾ أي: يا أشرف الرسل ﴿للمخلفين﴾ وزاد في ذمّهم بنسبتهم إلى الجلافة بقوله تعالى ﴿من الأعراب﴾ أي: أهل غلظ الأكباد ﴿ستدعون﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿إلى قوم أولي﴾ أي: أصحاب ﴿بأس شديد﴾ أي: شدّة في الحرب وشجاعة قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس. وقال كعب: الروم. وقال الحسن: فارس والروم. وقال: سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد قال ابن الخازن: وأقوى هذه الأقوال قول من قال أنهم هوازن وثقيف، لأنّ الداعي هو رسول الله ﷺ وبعده قول من قال أنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وقوله تعالى ﴿تقاتلونهم أو يسلمون﴾ فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما المقاتلة منكم وإمّا الإسلام منهم فإن لم يسلموا كان القتال لا غير وإن أسلموا لم يكن قتال لأنّ الغرض ليس إلا إعلاء كلمة الله تعالى ﴿فإن تطيعوا﴾ أي: توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك ﴿يؤتكم الله﴾ أي: الذي له الإحاطة ﴿أجراً حسناً﴾ دنيا وهو الغنيمة وأخرى وهي الجنة ﴿وإن تتولوا﴾ أي تعرضوا عن الجهاد ﴿كما توليتم من قبل﴾ أي عام الحديبية ﴿يعذبكم﴾ أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ﴿عذاباً أليماً﴾ لأجل تكرّر ذلك منكم فلما أنزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول الله فأنزل الله عز وجلّ.