مما أحله لكم من هذه الأنعام والحرث ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ أي: طرائقه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون ﴿إنه﴾ أي: الشيطان ﴿لكم عدو مبين﴾ أي: بين العداوة.
وقوله تعالى:
﴿ثمانية أزواج﴾ أي: أصناف بدل من حمولة وفرشاً والزوج لغة الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر: زوج، وللأنثى: زوج ﴿من الضأن﴾ زوجين ﴿اثنين﴾ أي: ذكر وأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والذكر ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن ﴿ومن المعز﴾ زوجين ﴿اثنين﴾ أي: ذكر وأنثى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالسكون والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه وهي ذوات الشعر من الغنم، وقال البغوي: جمع الماعز معيز وجمع الماعزة مواعز ﴿قل﴾ يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة ونسبوا ذلك لله تعالى ﴿الذكرين﴾ من الضأن والمعز ﴿حرم﴾ الله عليكم ﴿أم الأنثيين﴾ منهما ﴿أما﴾ أي: أم حرم ما ﴿اشتملت﴾ أي: انضمت ﴿عليه أرحام الأنثيين﴾ ذكراً كان أو أنثى ﴿نبئوني﴾ أي: أخبروني ﴿بعلم﴾ عن كيفية ذلك بأمر معلوم من جهة الله تعالى على تحريم ما حرمتم ﴿إن كنتم صادقين﴾ في دعواكم والاستفهام للإنكار والمعنى: من أين جاء التحريم فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام أو من قبل اشتمال الرحم فالزوجان حرام فمن أين التخصيص.
تنبيه: اتفق القراء على أنّ في همزة الوصل وهي التي بين همزة الاستفهام ولام التعريف وجهين وهما البدل والتسهيل والبدل هو مدها مبدلة والتسهيل هو أن تقصرها مسهلة.
﴿ومن الإبل اثنين﴾ ذكراً أو أنثى ﴿ومن البقر اثنين﴾ كذلك ﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين اختلفوا جهلاً وسفهاً ﴿آلذكرين حرم﴾ الله عليكم ﴿أم الأنثيين﴾ منهما ﴿أما﴾ أي: أم حرّم ما ﴿اشتملت﴾ أي: انضمت ﴿عليه أرحام﴾ الأنثيين ذكراً كان أو أنثى ﴿أم كنتم﴾ أي: بل أكنتم ﴿شهداء﴾ أي: حاضرين ﴿إذ وصاكم الله بهذا﴾ أي: حين وصاكم بهذا التحريم إذا أنتم لا تؤمنون بي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا بالمشاهدة والسماع فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله تعالى.
ولما احتج عليهم بهذه الحجة وبيّن أنه لا سند لهم في ذلك قال تعالى: ﴿فمن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم ممن افترى﴾ أي: تعمد ﴿على الله كذباً﴾ كعمرو بن لحي فإنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدأ شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس منه فهو داخل في هذا الوعيد ﴿ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي: لا يرشد ولا يوفق من كذب عليه وأضاف إليه ما لم يشرع لعباده.
ولما بين سبحانه وتعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التحريم والتحليل من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبين أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي فقال
تعالى موسى عليه السلام بقوله تعالى: ﴿فاعبدني وأقم الصلاة لذكري﴾ أتبعه بقوله تعالى:
﴿إنّ الساعة آتية﴾ أي: كائنة ﴿أكاد أخفيها﴾ قال أكثر المفسرين معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها غيري من الخلق وكيف أظهرها لكم ذكر تعالى على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقول الرجل كتمت سري من نفسي أي: أخفيته غاية الإخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت لأنّ الله تعالى وعد قبول التوبة فإذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت موته فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية فإذا لم يعلم وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت خوف معاجلة الأجل. وقال أبو مسلم: أكاد بمعنى أريد وهو كقوله تعالى: ﴿كذلك كدنا ليوسف﴾ (يوسف، ٧٦)
ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي: لا أريد أن أفعله وقال الحسن: إن أكاد من الله واجب فمعنى قوله تعالى: أكاد أخفيها أي: أنا أخفيها عن الخلق كقوله تعالى: ﴿عسى أن يكون قريباً﴾ (الإسراء، ٥١)
أي: هو قريب وقيل: أكاد صلة في الكلام والمعنى أنّ الساعة آتية أخفيها. قال زيد الخيل:
*سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
... فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما أن يتنفس قرنه وقوله تعالى: ﴿لتجزى كل نفس بما تسعى﴾ أي: تعمل من خير أو شرّ متعلق بآتية، واختلف في المخاطب بقوله تعالى:
﴿فلا يصدّنك﴾ أي: يصرفنك ﴿عنها من لا يؤمن بها﴾ فقيل: وهو الأقرب كما قاله الرازي أنه موسى عليه السلام لأنّ الكلام أجمع خطاب له، وقيل: هو محمد ﷺ واختلف أيضاً في عود هذين الضميرين على وجهين:
أحدهما: قال أبو مسلم لا يصدّنك: عنها أي: عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي: بالساعة فالضمير الأوّل عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليردّ السامع إلى كل خبر حقه.
ثانيهما: قال ابن عباس: فلا يصدنك عن الساعة أي: عن الإيمان بها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة وهذا أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.
تنبيه: المقصود من ذلك نهى موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صدّ موسى وفيه وجهان:
أحدهما: أنّ صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على حمله على المسبب.
الثاني: أنّ صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك ههنا المراد نهي المخاطب عن حضوره له لا أن يراه هو فالرؤية مسببة عن الحضور كما أنّ صدّ الكافر مسبب عن الرخاوة والضعف في الدين فقيل: لا تكن رخواً بل كن شديداً صلباً حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ﴿واتبع هواه﴾ أي: ميل نفسه إلى اللذات المحبوبة المخدجة لقصر نظره عن غيرها وخالف أمر الله ﴿فتردى﴾ أي: فتهلك إن انصددت عنها وما في قوله
ثم أنثها ثانياً؟ أجيب: بأنه ذكر أولاً لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل: تقديره شيئاً من النعمة وأتت ثانياً اعتباراً بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل: هي أي: الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي: أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام ﴿لا يعلمون﴾ أن التخويل استدراج وامتحان.
﴿قد قالها﴾ أي: القولة المذكورة وهي قوله: ﴿إنما أوتيته على علم﴾ لأنها كلمة أو جملة من القول ﴿الذين من قبلهم﴾ أي: من الأمم الماضية. قال الزمخشري: هم قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي، وقومه راضون به فكأنهم قالوها. قال: ويجوز أن يكون في الأمم الماضية آخرون قائلون مثلها ﴿فما أغنى عنهم﴾ أي: أولئك الماضين ﴿ما كانوا يكسبون﴾ أي: من متاع الدنيا ويجمعون منه.
﴿فأصابهم سيئات ما كسبوا﴾ أي: جزاؤها من العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى ﴿والذين ظلموا﴾ أي: بالعتو ﴿من هؤلاء﴾ أي: من مشركي قومك ومن للبيان أو للتبعيض ﴿سيصيبهم سيئات ما كسبوا﴾ أي: كما أصاب أولئك ﴿وما هم بمعجزين﴾ أي: فائتين عذابنا فقتل صناديدهم يوم بدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين فقيل لهم:
﴿أولم يعلموا أن الله﴾ أي: الذي له الجلال والكمال ﴿يبسط الرزق﴾ أي: يوسعه ﴿لمن يشاء﴾ وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً ﴿ويقدر﴾ أي: يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلابد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضاً من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات.
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ قال الشاعر:

*فلا السعد يقضي به المشتري ولا النحس يقضي علينا زحل*
*ولكنه حكم رب السماء وقاضي القضاة تعالى وجل*
﴿إن في ذلك﴾ أي: البيان الظاهر ﴿لآيات﴾ أي: دلالات ﴿لقوم يؤمنون﴾ أي: بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول ﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾ أي: أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن ﴿لا تقنطوا﴾ أي: لا تيأسوا ﴿من رحمة الله﴾ أي: إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل، وفتحها الباقون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي
إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله ﷺ فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد ـ أي: السورة ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة حديث موضوع.
ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى ﴿متكئين فيها﴾ أي: الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين، فقال الجلال المحلي: حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير، فيقال: متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل: إنه من فاعل صبروا، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالاً مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة.
ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى: ﴿على الأرائك﴾ أي: السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل: الأرائك الفرش على السرر. وقوله تعالى: ﴿لا يرون فيها﴾ أي: الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل: إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في متكئين فتكون حالاً متداخلة. ﴿شمساً﴾ أي: حرًّا ﴿ولا﴾ يرون فيها ﴿زمهريراً﴾ أي: برداً شديداً فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلاً على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحرّ الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائماً بخلاف الدنيا، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم، قال رسول الله ﷺ «اشتكت النار إلى ربها قالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» وقيل: الزمهرير القمر بلغة طيء، وأنشدوا:
*وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر*
ويروى ما ظهر.
﴿ودانية﴾ أي: قريبة مع الارتفاع ﴿عليهم ظلالها﴾ أي: شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية، فقال البغوي: عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي: عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل، قال البيضاوي: أو عطف على جنة أي: وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن: ٤٦)
. فإن قيل: إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟ أجيب: بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.
﴿وذللت قطوفها﴾ جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي: المجنية ﴿تذليلاً﴾ أي: سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لا يردّ اليد


الصفحة التالية
Icon