وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله تعالى ذنوب بالنسبة إلى أحوالهم فقالا ذلك على عادة المقرّبين في استعظام الصغير من السيئات وتحقير العظيم من الحسنات وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة ومن جملة ذلك أن آدم إنما أكل من الشجرة قبل النبوّة.
﴿قال﴾ الله تعالى ﴿اهبطوا﴾ أي: آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذرّيتكما ويدل لذلك قوله تعالى في سورة طه: ﴿اهبطا﴾ (طه، ١٢٣)
بضمير التثنية ﴿بعضكم﴾ أي: بعض الذرّية ﴿لبعض عدوّ﴾ أي: من ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: يعود الضمير لآدم وحواء وإبليس، وقيل: لآدم وحواء وإبليس والحية، وعلى هذين فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس ﴿ولكم في الأرض﴾ أي: جنسها ﴿مستقر﴾ أي: موضع استقرار ﴿و﴾ لكم فيها ﴿متاع﴾ أي: تمتع ﴿إلى حين﴾ أي: انقضاء آجالكم، وقيل: إلى انقطاع الدنيا، وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني منك فلما توفي غسلته الملائكة بسرنديب بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم من بعده.
﴿قال﴾ الله تعالى ﴿فيها﴾ أي: الأرض ﴿تحيون﴾ أي: تعيشون أيام حياتكم ﴿وفيها تموتون﴾ أي: وفيها وفاتكم وموضع قبوركم ﴿ومنها تخرجون﴾ أي: يوم القيامة تخرجون للحشر والجزاء، وقرأ ابن ذكوان وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء والباقون بضم التاء وفتح الراء.
﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً﴾ أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة من مطر ونحوه ونظيره قوله تعالى: ﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ (الزمر، ٦)
وقوله تعالى: ﴿وأنزلنا الحديد﴾ (الحديد، ٢٥)
وقيل: كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء ﴿يواري﴾ أي: يستر ﴿سوأتكم﴾ أي: عوراتكم.
روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها وكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء يطوفون بالليل عراة قال قتادة: كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول:

*اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله*
فنزلت، قال البيضاوي: ولعله سبحانه ذكر قصة آدم تقدمة لذلك حتى نعلم أنّ انكشاف العورة أوّل سوء أصاب الإنسان من الشيطان وإنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم ﴿وريشاً﴾ أي: ولباساً تتجملون به والريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى: وأنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأنّ الزينة غرض صحيح. كما قال تعالى: ﴿لتركبوها وزينة﴾ (النحل، ٨)
وقال تعالى: ﴿ولكم فيها جمال﴾ (النحل، ٦)
وقال ﷺ «إنّ الله جميل يحب الجمال» وقال ابن عباس: وريشاً أي: مالاً، يقال: تريش الرجل تموّل، ولما ذكر سبحانه وتعالى اللباس الحسي وقسمه إلى ساتر ومزين أتبعه اللباس المعنوي فقال: ﴿ولباس التقوى﴾ قال ابن عباس: هو العمل الصالح ثم زاد الله تعالى في تعظيم المعنوي بقوله: ﴿ذلك خير﴾ أي: ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب لكونه أهم اللباسين لأنّ نزعه يكشف العورة الحسية
والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل ﴿فكذب﴾ بها وزعم أنها سحر ﴿وأبى﴾ أن يسلم، فإن قيل: قوله تعالى: كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات فإنّ من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى عليه السلام وبعده؟ أجيب: بأنّ لفظ الكل وإن كان للعموم قد يستعمل في الخصوص مع القرينة كما يقال: دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال: إنّ موسى عليه السلام أراه آياته وعدّد عليه آيات غيره من الأنبياء فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى سبحانه وتعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم كأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه فقيل:
﴿قال﴾ حين علم حقيقة ما جاء به موسى وظهوره وخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ووهن في نفسه وهناً عظيماً ﴿أجئتنا لتخرجنا من أرضنا﴾ أي: الأرض التي نحن مالكوها ويكون لك الملك فيها فصارت فرائصه ترعد خوفاً مما جاء به موسى لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأنّ المحق لو أراد قود الجبال لانقادت له وإن مثله لا يخذل ولا يذل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة ثم خيل لأتباعه أن ذلك سحر بقوله ﴿بسحرك يا موسى﴾ فكان ذلك مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال صارفاً لهم عن اتباع ما رأوه من البيان ثم أظهر لهم أنه يعارضه بمثل ما أتى به بقوله:
﴿فلنأتينك بسحر مثله﴾ أي: مثل سحرك يعارضه ﴿فاجعل بيننا وبينك موعداً﴾ أي: من الزمان والمكان ﴿لا نخلفه﴾ أي: لا نجعله خلفنا ﴿نحن ولا أنت﴾ أي: لا نجاوزه ولما كان كل من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: ﴿مكاناً﴾ وآثر ذلك المكان لأجل وصفه بقوله ﴿سوى﴾ أي: عدلاً وقال ابن عباس نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم، وقيل: معنى سوى أي: سوى هذا المكان، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح، وقيل: المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي: بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله:
﴿قال موعدكم يوم الزينة﴾ فإنه لا يطابقه.
تنبيه: يحتمل أنّ قوله: قال موعدكم يوم الزينة أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى عليه السلام وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه؛ الأوّل: أنه جواب لقول فرعون: ﴿فاجعل بيننا وبينك موعداً﴾ الثاني: وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ثالثها: أن قوله: موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز، فإذا جعلناه من موسى عليه السلام استقام الكلام واختلف في يوم الزينة فقال مجاهد وقتادة: النيروز، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو يوم عاشوراء، وقيل: كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة، وقيل: يوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون
ويرون أثرهم وهذا تقريع فيه معنى التعجب.
تنبيه: حذفت ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى شيء من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد، ولما كان التقدير فحقت عليهم كلمة الله تعالى عطف عليه.
﴿وكذلك﴾ أي: ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ ﴿حقت كلمة ربك﴾ أي: المحسن إليك وهي ﴿لأملأن جهنم﴾ الآية ﴿على الذين كفروا﴾ لكفرهم، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الميم على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد، وقوله: ﴿أنهم أصحاب النار﴾ في محل رفع بدل من ﴿كلمة ربك﴾ أي: مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ومعناها: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب هلاكهم بعذاب النار في الآخرة أو في محل نصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل ولما بين تعالى أن الكفار بالغوا في إظهار العداوة للمؤمنين بقوله: ﴿ما يجادل في آيات الله﴾ وما بعده، بين تعالى أن الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حوله يبالغون في إظهار المحبة والنصر للمؤمنين فقال تعالى:
﴿الذين يحملون العرش﴾ وهو مبتدأ وقوله: ﴿ومن حوله﴾ عطف عليه وقوله تعالى: ﴿يسبحون﴾ خبره ﴿بحمد ربهم﴾ أي: المحسن إليهم، قال شهر بن حوشب: حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال: وكأنهم يرون ذنوب بني آدم وقيل: إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى بأربعة أخر كما قال تعالى: ﴿ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية﴾ (الحاقة: ١٧)
وهم من أشراف الملائكة وأفضلهم لقربهم من محل رحمة ربهم قال ابن الخازن: وجاء في الحديث: أن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجه مخافة أن ينظر إلى العرش فيضعف وجناحان يهفو بهما في الهواء، ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد، ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. وقال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرض والأرضون والسموات إلى حجزتهم وهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وقال ميسرة بن عرفة: أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها. وقال مجاهد: بين الملائكة والعرش سبعون ألف حجاب من نور وسبعون ألف حجاب من ظلمة. وعن جابر قال: قال رسول الله ﷺ «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام»، وأما صفة العرش فقيل: أنه من جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقاً. روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطائر المسرع ثلاثين ألف عام، ويكسي العرش كل يوم سبعين ألف لون من نور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى كلها، والأشياء كلها
صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء، وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً وكانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء.
ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا؟ فقال تعالى: ﴿عن النبأ العظيم﴾ قال مجاهد والأكثرون: هو القرآن، دليله قوله تعالى: ﴿قل هو نبأ عظيم﴾ (ص: ٦٧)
وقال قتادة: هو البعث.
فإن قيل: إذا كان الضمير يرجع للكافر، فكيف يكون قوله تعالى: ﴿الذي هم﴾ أي: بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر ﴿فيه مختلفون﴾ مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث؟ أجيب: بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك، وأما إذا كان المتساءل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيراً وقيل: المتساءل عنه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردع للمتسائلين هزؤاً، ﴿سيعلمون﴾ ما يحل بهم على إنكارهم له.
وقوله تعالى: ﴿ثم كلا سيعلمون﴾ تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك: الأولى للكفار والثانية للمؤمنين، أي: سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى: ﴿ألم نجعل﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿الأرض مهاداً﴾ أي: فراشاً كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير.
﴿والجبال﴾ أي: التي تعرفون شدّتها وعظمها. ﴿أوتاداً﴾ أي: تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد، والاستفهام للتقرير، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث، وإنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة.
تنبيه: مهاداً مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالاً مقدّرة.
﴿وخلقناكم﴾ أي: بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ﴿أزواجاً﴾ أي: أصنافاً ذكوراً وإناثاً وقيل: ألواناً.
﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿نومكم سباتاً﴾ أي: راحة لأبدانكم. قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل: معناه جلعنا نومكم قطعاً لأعمالكم وقيل: المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين.
وقوله تعالى: ﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿الليل﴾ أي: بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن ﴿لباساً﴾ فيه استعارة أي: يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هرباً من عدوّ أو بياتاً له أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر:
*وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أنّ المانوية تكذب*
ولما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً فقال تعالى: ﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من القدرة التامّة ﴿النهار﴾ أي: الذي آيته الشمس ﴿معاشاً﴾ أي: حياة تبعثون فيه عن نومكم، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشاً على هذا اسم زمان.
﴿وبنينا﴾ بما لنا من الملك التامّ ﴿فوقكم سبعاً﴾ أي: سبع سماوات وقوله تعالى: ﴿شداداً﴾ جمع شديدة أي: قوية


الصفحة التالية
Icon