العلم لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله: ﴿إنك أنت العليم الحكيم﴾، وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وأنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ (الزمر، ٩) وأن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها لأنه أخبر عن علمه تعالى بأسماء المسميات جميعها ولم تكن موجودة قبل الإخبار.
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾ لما أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له واعترافاً بفضله وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه أو أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى: ﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ (الحجر، ٢٩) (ص، ٧٢) امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله، وقضية الأوّل تأخير الأمر به عن تسوية خلقه بدليل تأخيره عن أنبائهم وتعليمهم المستلزمين لتسوية خلقه، وعلى الثاني اقتصر بعض المفسرين وهو الظاهر، وأجيب عن دليل الأوّل بأنّ الواو في قوله: وإذ قلنا لا تقتضي الترتيب والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إمّا المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله فمعنى اسجدوا له أي: إليه وكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون أنموذجاً أي: مثالاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ومجمعاً لما في العالم الروحاني والجثماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدّر لهم من الكمالات ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته، وأما المعنى اللغويّ وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى: ﴿وخروا له سجداً﴾ (يوسف، ١٠٠) ولم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض إنما كان الانحناء فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم مثل ما مرّ ﴿فسجدوا﴾ أي: الملائكة ﴿إلا إبليس أبى واستكبر﴾ أي: امتنع عما أمر به استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه، وقال: أنا خير منه، والإباء امتناع واختيار، والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره،
والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكبر مما عنده يتكبر بذلك ويتزين بالباطل ﴿وكان من الكافرين﴾ أي: في علم الله أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله تعالى: ﴿أنا خير منه﴾ جواباً لقوله تعالى: ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين﴾ (ص، ٧٥) لا بترك الواجب وهو السجود وحده، والآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له وأنّ إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولم يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله تعالى: ﴿إلا إبليس كان من الجنّ﴾ (الكهف، ٥٠) لجواز أن يقال: كان من الجنّ فعلاً ومن الملائكة نوعاً.
فإن قيل: له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب: بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم: الجن ومنهم إبليس،
الثاني. ولما بيّن تعالى أنّ الكافر عند الابتلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين بين حال المتقين بقوله تعالى:
﴿إلا﴾ أي: لكن ﴿الذين صبروا﴾ على الضرّاء ﴿وعملوا الصالحات﴾ أي: في النعماء، أي: فإنهم إن أصابتهم شدّة صبروا، وإن نالتهم نعمة شكروا ﴿أولئك لهم مغفرة وأجر كبير﴾ فجمع لهم تعالى بين هذين المطلوبين، أحدهما: زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله تعالى: ﴿لهم مغفرة﴾، والثاني: الفوز بالثواب ودخول الجنة وهو المراد من قوله تعالى: ﴿وأجر كبير﴾.
﴿فلعلك﴾ يا محمد ﴿تارك بعض ما يوحى إليك﴾ فلا تبلغهم إياه لتهاونهم به، فإنهم كانوا يستهزؤون بالقرآن ويضحكون منه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش يين اللفظين والباقون بالفتح. ﴿وضائق به صدرك﴾ أي: بتلاوته عليهم لأجل ﴿أن يقولوا لولا﴾ أي: هلا ﴿أنزل عليه كنز﴾ ينفقه في الاستتباع كالملوك ﴿أو جاء معه ملك﴾ يصدقه كما اقترحنا، وروي عن ابن عباس: «أنّ رؤساء مكة قالوا: يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون: ائتنا بالملائكة ليشهدوا بنبوّتك فقال: لا أقدر على ذلك» فنزل ﴿إنما أنت نذير﴾ فلا عليك إلا البلاغ لا الإتيان بما اقترحوه ﴿والله على كل شيء وكيل﴾ فتوكل عليه إنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقولهم وأفعالهم.
﴿أم﴾ أي: بل ﴿يقولون﴾ كفار مكة ﴿افتراه﴾ أي: اختلقه من تلقاء نفسه وليس هو من عند الله، قال الله تعالى: ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿فأتوا بعشر سور مثله﴾ في البيان وحسن النظم ﴿مفتريات﴾ فإنكم عربيون مثلي. قال ابن عباس: هذه السور التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، وقيل: التحدي وقع بمطلق السور وهو متقدّم على التحدّي بسورة واحدة، والتحدّي بسورة واحدة وقع في سورة البقرة، وفي سورة يونس، أمّا تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر؛ لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية، وأمّا في سورة يونس فلأنّ كل واحدة من هاتين السورتين مكية، فتكون سورة هود متقدّمة في النزول على سورة يونس كما قاله الرازي، وأنكر المبرد هذا وقال: بل سورة يونس أولاً وقال معنى قوله في سورة يونس ﴿فأتوا بسورة مثله﴾ (يونس، ٣٨) أي: مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سور من غير وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرّد البلاغة ﴿وادعوا﴾ أي: وقل لهم يا محمد ادعوا للمعاونة على ذلك ﴿من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ في أنه مفترى، والضمير في قوله تعالى:
﴿فإن لم يستجيبوا لكم﴾ أي: بإتيان ما دعوتموهم إليه للنبيّ ﷺ وللمؤمنين؛ لأنه ﷺ والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿فإن لم يستجيبوا لك فاعلم﴾ (القصص، ٥٠) والتعظيم للنبيّ ﷺ ﴿فاعلموا أنما أنزل﴾ ملتبساً ﴿بعلم الله﴾ أي: بما لا يعلمه إلا الله تعالى من نظم يعجز الخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ولا يقدر عليه سواه، وقوله تعالى: ﴿وأن﴾ مخففة من الثقيلة، أي: وأنه ﴿لا إله إلا هو﴾ وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم ﴿فهل أنتم مسلمون﴾ أي: ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذ
على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني: حرّة وسبعمائة سرّية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائراً بمن معه.
﴿حتى إذا أتوا﴾ أي: أشرفوا ﴿على وادي النمل﴾ روي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن، فمرّ بمدينة النبيّ ﷺ فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك؟
فقال: يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف.
قال البقاعي: وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم، وقال قتادة ومقاتل: هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي، وقيل: واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم، وقال نوف الحميري: كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب، وقيل: كان كالبخاتي، وقال البغويّ والمشهور: أنه النمل الصغير.
فائدة: وقف الكسائي على وادي بالياء، والباقون بغير ياء، فإن قيل: لم عدى أتوا بعلى؟ أجيب: بأنه يتوجه على معنيين: أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء، والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم.
ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي ﴿قالت نملة﴾ قال الشعبيّ: كانت تلك النملة ذات جناحين، وقيل: كانت نملة عرجاء فنادت ﴿يا أيها النمل ادخلوا﴾ أي: قبل وصول ما أرى من الجيش ﴿مساكنكم﴾ ثم عللت أمرها فقالت: ﴿لا يحطمنكم﴾ أي: يكسرنكم ويهشمنكم، أي: لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميراً عن شيء كان لغيره أشدّ نهياً ﴿سليمان وجنوده﴾ أي: لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا
يغزو بنا حتى يصبح ينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبنا وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبيّ ﷺ قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله ﷺ قالوا: والله محمد والخميس أي الجيش فلما رآهم رسول الله ﷺ قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» وروى إياس بن سلمة قال: حدّثني أبي قال: «خرجنا إلى خبير مع رسول الله ﷺ قال فجعل عمي عامر يرنجز بالقوم ثم قال:
*تالله لولا الله ما اهتدينا... ولا تصدّينا ولا صلينا*
*ونحن عن فضلك ما استغنينا... فثبت الأقدام إن لاقينا*
*... وأنزلن سكينة علينا
فقال رسول الله ﷺ من هذا، قال: أنا عامر فقال: غفر لك ربك وما استغفر رسول الله ﷺ لأحد إلا استشهد قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبيّ الله لولا متعتنا بعامر قال فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول:
*قد علمت خيبر أني مرحب... شاكي السلاح بطل مجرب*
*... إذا الحروب أقبلت تلتهب
قال: فبرز له عامر بن عثمان فقال:
*قد علمت خيبر أني عامر... شاكي السلاح بطل مقامر*
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فرجع سيف عامر على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه قال: فأتيت النبيّ ﷺ وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر. فقال رسول الله ﷺ من قال ذلك قلت ناس من أصحابك قال: من قال ذلك بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى عليّ وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله ﷺ فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية وخرج مرحب وقال:
*أنا الذي سمتني أمي مرحب... شاكي السلاح بطل مجرّب*
فقال علي كرّم الله تعالى وجهه:
*أنا الذي سمتني أمي حيدره... كليث غابات كريه المنظرة*
*... أكيلكم بالسيف كيل السندرة*
قال: فضرب رأس مرحب فقتله. ثم كان الفتح على يديه»
ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندره أي: أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسندرة مكيال واسع. قيل: يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي. والسندرة أيضاً العجلة والنون زائدة قال ابن الأثير وذكرها الجوهري في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها. وروي فتح خيبر من طرق أخر في بعضها


الصفحة التالية
Icon