وقيل: إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى: ﴿إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه﴾ (الكهف، ٥٠) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، قال البغوي: والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى: ﴿كان من الجنّ﴾ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل: إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال: فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس.
تنبيه: من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً.
﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ أي: اتخذ الجنة مسكناً لتستقر فيها لأنها استقرار ولبث ولفظة أنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أوّلاً بأن يقول اسكنا تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم وهو الأمر بالسكنى التي هي الأصل بالنسبة إلى ما عطف عليها من الأكل وغيره والمعطوف عليه تبع له حتى في الوجود إذ لم يكن له من يؤنسه في الجنة فخلقت حوّاء ـ بالمدّ ـ من ضلعه الأقصر من جانبه الأيسر وهو نائم فلما استيقظ من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال: من أنت؟ قالت: زوجتك خلقني الله لك أسكن إليك وتسكن إليّ. وسميت حوّاء لأنها خلقت من حيّ خلقها الله من غير أن يحس بها آدم ولا وجد لخلقها ألماً ولو وجد له ألماً لما عطف رجل على امرأة قط، وإنما صح العطف على المستكن مع أنّ المعطوف لا يباشر فعل الأمر لأنه وقع تابعاً ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، والجنة دار الثواب لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها، ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال: إنّ الجنة بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحاناً لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى: ﴿اهبطوا مصراً﴾ ﴿فكلا منها﴾ أكلاً ﴿رغداً﴾ أي: واسعاً لذيذاً لا حجر فيه فرغداً صفة مصدر محذوف وقيل: مصدر في موضع الحال ﴿حيث﴾ أي: أي مكان من الجنة ﴿شئتما﴾ وسع الأمر عليهما إزالة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر. وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الشين بخلاف عنه وأبدل السوسي الهمزة وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط ﴿ولا تقربا هذه الشجرة﴾ بالأكل منها وهي شجرة الحنطة أو الكافور أو شجرة
تحقق عندكم إعجازه مطلقاً. وقيل: الخطاب للمشركين والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم، أي: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه، وأنّ طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنه منزل من عند الله، وأنّ ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم بعد هذه الحجة القاطعة مسلمون، أي: أسلموا وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر..
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها﴾ أي: بعمله الذي يعمل من أعمال البرّ ﴿نوف إليهم أعمالهم﴾ أي: التي عملوها من خير كصدقة وصلة رحم ﴿فيها﴾ أي: في الدنيا ﴿وهم فيها لا يبخسون﴾ أي: نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد ونحو ذلك.
﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط﴾ أي: بطل ﴿ما صنعوا﴾ أي: عملوا ﴿فيها﴾ أي: الآخرة فلا ثواب لهم ﴿وباطل ما كانوا يعملون﴾ لأنه لغير الله تعالى، فقال مجاهد: نزلت في أهل الرياء قال ﷺ «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالو: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء». والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة لتحمده الناس ويعتقدوا فيه الصلاح، فهذا هو العمل الذي لغير الله تعالى ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ وقال أكثر المفسرين: إنّها نزلت في الكافر، وأمّا المؤمن فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وعن أنس أنّ رسول الله ﷺ قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً». وقيل: نزلت في المنافقين الذين يطلبون بغزوهم مع النبيّ ﷺ الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها. وقيل في اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس. ولما ذكر تعالى الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة بقوله تعالى:
﴿أفمن كان على بيّنة من ربه﴾ قيل: هو النبيّ ﷺ والبينة هي القرآن ﴿ويتلوه﴾ أي: يتبعه ﴿شاهد﴾ يصدقه ﴿منه﴾ أي: من الله تعالى وهو جبريل عليه السلام ﴿ومن قبله﴾ أي: القرآن ﴿كتاب موسى﴾ وهو التوراة شاهد له أيضاً وقوله تعالى ﴿إماماً﴾ أي: كتاباً مؤتماً به في الدين ﴿ورحمة﴾ أي: على المنزل عليهم؛ لأنه الوصلة إلى الفوز بسعادة الدارين حال من كتاب موسى، والجواب محذوف لظهوره، والتقدير: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار ليس مثله بل بينهم تفاوت بعيد وتباين بين. وقيل: هو من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، والمراد بالبينة: هو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه، أي: من الله ومن قبله كتاب موسى، أي: ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى، أي: في دلالته على هذا المطلوب لا في الوجود. قال الرازي: وهذا القول هو الأظهر لقوله تعالى: ﴿أولئك يؤمنون به﴾ وهذه صفة جمع ولا يجوز رجوعه إلى محمد ﷺ انتهى. ويجوز أن تكون للتعظيم أو له ﷺ ومن تبعه وربما يكون هذا أولى كما
الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خالياً ﴿وهم﴾ أي: سليمان وجنوده ﴿لا يشعرون﴾ أي: بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولاً له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم، والنمل: اسم جنس معروف واحده نملة، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما.
وعن قتادة: أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضراً وهو غلام حديث، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله، وهو قوله: قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، قال الزمخشريّ: وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى.
وردّ هذا أبو حيان فقال: ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكراً وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا. هـ.
وقال الطيبي: العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك.
فإن قيل: كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ أجيب: بأنّ من جنوده ركباناً ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال، وقيل: كان اسمها طاخية.
فائدة: قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت، ووجهه: نادت يا، نبهت: ها، سمت: النمل، أمرت: ادخلوا، نصت: مساكنكم، حذرت: لا يحطمنكم، خصت: سليمان، عمت: وجنوده، أشارت: وهم، أعذرت: لا يشعرون، ولما كان هذا أمر معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني تسبب عنه قوله.
﴿فتبسم ضاحكاً من قولها﴾ أي: لما أوتيته من الفصاحة والبيان وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذي أحداً وهم يعلمون، وبما آتاه الله من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه تنبيه: ضاحكاً: حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم، وقيل: هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك، وقيل: التبسم قد يكون للغضب، ومنه تبسم تبسم الغضبان، فضاحكاً: مبيناً له، قال عنترة:
زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض. وقوله تعالى:
﴿وأخرى﴾ صفة مغانم مقدّراً مبتدأ وقيل: هي مبتدأ والخبر ﴿لم تقدروا عليها﴾ وهي كما قال ابن عباس: فارس والروم وما كانت العرب تقدر تقاتل فارس والروم بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليهما بالإسلام. وقال الضحاك: هي خيبر وعدها الله تعالى نبيه ﷺ قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة: هي مكة. وقال عكرمة: حنين. وقال البقاعي: هي والله أعلم غنائم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. ﴿قد أحاط الله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرةً وعلماً ﴿بها﴾ أي: علم أنها ستكون لكم ﴿وكان الله﴾ أي: المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿على كل شيء﴾ منها ومن غيرها ﴿قديراً﴾ أي: بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم.
﴿ولو قاتلكم الذين كفروا﴾ وهم أهل مكة ومن وافقهم وكانوا قد اجتمعوا وجمعوا الأحابيش ومن أطاعهم وقدّموا خالد بن الوليد طليعة لهم إلى كراع الغميم ولم يكن أسلم بعد ﴿لولوا﴾ أي: بغاية جهدهم ﴿الأدبار﴾ منهزمين ﴿ثم﴾ أي: بعد طول الزمان وكثرة الأعوان ﴿لا يجدون﴾ أي: في وقت من الأوقات ﴿ولياً﴾ أي: من يفعل معهم فعل القريب من الشفقة ﴿ولا نصيراً﴾ ينصرهم ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم ﴿وإنّ جندنا لهم الغالبون﴾ (الصافات: ١٧٣)
قال تعالى: ﴿سنة الله﴾ أي: سنّ المحيط بكل شيء علماً غلبة أنبيائه وأتباعهم ﴿التي قد خلت من قبل﴾ أي: فيمن مضى من الأمم. كما قال تعالى: ﴿لأغلبنّ أنا ورسلي﴾ (المجادلة: ٢١)
﴿ولن تجد﴾ أيها السامع ﴿لسنة الله﴾ أي: الذي لا يخلف قوله، لأنه محيط بجميع صفات الكمال ﴿تبديلاً﴾ أي: تغييراً من مغيّر ما يغيرها بما يكون بدلها ثم عطف على ما تقديره هو الذي سنّ هذه السنة العامة.
قوله تعالى: ﴿وهو الذي كف﴾ أي: وحده ﴿أيديهم﴾ أي: الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم. فإنّ الكف مشروع لكل أحد ﴿عنكم وأيديكم﴾ أيها المؤمنون ﴿عنهم ببطن مكة﴾ أي: بالحديبية وقيل التنعيم. وقيل وادي مكة. وقيل: داخل مكة ﴿من بعد أن أظفركم﴾ أي: أظهركم ﴿عليهم﴾ وهذا تبيين لما تقدّم من قوله تعالى: ﴿ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار﴾ (الفتح: ٢٢)
بتقدير أنه كما كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم روى ثابت عن أنس بن مالك «أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله ﷺ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي ﷺ وأصحابه فأخذهم سلماً فاستحياهم فنزلت هذه الآية». وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي ﷺ بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبيّ الله ﷺ فأخذ الله أبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله ﷺ جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا: اللهم لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت وقيل: إن ذلك كان يوم فتح مكة وبه استشهد أبو حنيفة على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً ﴿وكان الله﴾ أي: المحيط بالجلال والإكرام أزلاً وأبداً وقرأ ﴿بما يعملون﴾ أبو عمرو: بالياء


الصفحة التالية
Icon