العنب والتين شجرة من أكل منها أحدث والأولى كما قال البيضاوي: أن لا تعين من غير دليل قاطع أو ظاهر كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود على التعيين ﴿فتكونا﴾ أي: فتصيرا ﴿من
الظالمين﴾
أي: العاصين.
تنبيه: في هذه الآية مبالغتان: الأولى: تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روى أبو داود: حبك الشيء يعمى ويصم أي: يخفى عليك معانيه ويصم أذنيك عن سماع مساويه فينبغي أن لا يحول ما حول ما حرّم عليهما مخافة أن يقعا فيه.
الثانية: جعل قربانهما إلى الشجرة سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ﴿فأزلهما الشيطان﴾ أي: إبليس سمي به لبعده عن الخير والرحمة وقرأ حمزة بألف بعد الزاي وتخفيف اللام أي: نحاهما والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد اللام أي: أذهبهما ﴿عنها﴾ أي: الجنة وإزلاله قوله: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته إياهما بقوله: إني لكما لمن الناصحين واختلف في أنه تمثّل لهما فقال لهما ذلك أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة وكيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له: اخرج منها فإنك رجيم فقيل: إنه منع من الدخول بعد خروجه.
الأول: على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ولم يمنع أن يدخل لوسوسة ابتلاء لآدم وحواء فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة، وكان آدم لما رأى ما في الجنة من النعيم قال: لو أن خلدا فاغتنم الشيطان ذلك منه فإتاه الشيطان من قبل الخلد فوقع قوله في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين فاغترّا وما قلنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت حواء آدم حتى أكلها وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأدّته إليه فأكل وقيل: قام عند الباب فناداهما وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة وقيل: دخل في فم الحية حتى دخلت به وكانت صديقاً لإبليس وكانت من أحسن الدواب، لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسألها إبليس أن تدخله الجنة في فمها فأدخلته ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة وقيل: أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم في ذلك كما قال البيضاوي عند الله ﴿فأخرجهما مما كانا فيه﴾ من الكراخة والنعيم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال الله تعالى لآدم: أليس فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كداً، فأهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم من صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم درسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه،
جرى عليه بعض المفسرين، والإشارة إلى من كان على بينة، والضمير في به للقرآن وإذا كان هذا الفريق ليس له في الآخرة إلا النار فهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة ﴿ومن يكفر به﴾ أي: بالنبيّ ﷺ أو القرآن ﴿من الأحزاب﴾ أي: أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس ﴿فالنار موعده﴾ يعني في الآخرة.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أنّ النبيّ ﷺ قال: «لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار». قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إنّ النبي ﷺ لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول: ﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده﴾ قال بعض العلماء: ولما دلت الآية على أنّ من يكفر به كانت النار موعده دلّ على أنّ من لا يكفر به كانت الجنة موعده وقوله تعالى: ﴿فلا تك في مرية﴾ أي: في شك ﴿منه﴾ أي: القرآن أو الموعد ﴿إنه الحق من ربك﴾ الخطاب للنبيّ ﷺ والمراد غيره لأنه ﷺ لم يشك قط ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ أي: لا يصدقون بما أوحينا إليك أو بأن موعد الكفار النار، ثم وصف الله تعالى هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم. الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله كما قال تعالى:
﴿ومن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم ممن افترى على الله كذباً﴾ بنسبة الشريك والولد إليه، أو أسند إليه ما لم ينزله، أو نفى عنه ما أنزله. الصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله تعالى في موقف الذل والهوان كما قال تعالى: ﴿أولئك يعرضون على ربهم﴾ أي: يوم القيامة. فإن قيل: هم لا يختصون بهذا العرض لأنّ العرض عامّ في كل العباد كما قال تعالى: ﴿وعرضوا على ربك صفاً﴾ (الكهف، ٤٨) أجيب: بأنهم يعرضون فيفتضحون بشهادة الأشهاد عليهم كما قال تعالى: ﴿ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم﴾ فيحصل لهم من الخزي والنكال ما لا مزيد عليه، وهذه هي الصفة الثالثة، واختلف في هؤلاء الأشهاد، فقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، وقال مقاتل: هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، أي: على رؤوس الناس، وقال قوم: هم الأنبياء كما قال تعالى: ﴿فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين﴾ (الأعراف، ٦). والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. فإن قيل: العرض على الله يقتضي أن يكون الله تعالى في حيز وهو تعالى منزه عن ذلك. أجيب: بأنهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب والسؤال، أو يكون ذلك عرضاً على من يوبخ بأمر الله تعالى من الأنبياء والمؤمنين. والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي الفارسي: وكان هذا أرجح؛ لأنّ ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على فعيل كقوله تعالى: ﴿وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾ (النحل، ٨٩). وعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال: «إنّ الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: نعم، حتى إذا قرّره بذنوبه قال تعالى: سترتها عليك في الدنيا وقد سترتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته»، وأمّا الكافر والمنافق فتقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ولما أخبر الله تعالى عن حالهم في عقاب القيامة
أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى: {ألا لعنة

*لما رآني قد قصدت أريده أبدى نواجذه لغير تبسم*
وقال الزجاج: أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: ضاحكاً أي: متبسماً، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم»، وعن عبد الله بن الحارث بن جبير قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان أوّله التبسم، وآخره الضحك، ثم حمد الله تعالى على هذه النعمة وسأل ربه توفيق شكره لما تذكر ما أولاه ربه سبحانه وتعالى بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك ﴿وقال رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿أوزعني﴾ أي: ألهمني ﴿أن أشكر نعمتك﴾ وقيل معناه لغة: اجعلني أزع شكر نعمتك أي: أكفه وأمنعه حتى لا يفلت مني فلا أزال شاكراً، وأزع بفتح الزاي أصله: أوزع فحذفت واوه كما في أدع، ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به حققه بقوله ﴿التي أنعمت عليّ﴾ وأفهم قوله: ﴿وعلى والديّ﴾ أن أمّه كانت أيضاً تعرف منطق الطير وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين فإنه إذا كان تقياً نفعهما بدعائه وشفاعته ودعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له وقالوا رضي الله عنك وعن والديك.
تنبيه: الشكر لغة: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً أو محبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان، كما قال القائل:
*أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا*
وعرفاً: صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته.
روي عن داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء: الأول: معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر، الثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة، الثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك قال عليه السلام: مشيراً إلى هذا المعنى ﴿وأن أعمل صالحاً﴾ أي: في نفس الأمر، وقيده بقوله ﴿ترضاه﴾ لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل:
*إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب*
وقوله ﴿وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله
التحتية أي الكفار.
والباقون بالتاء الفوقية، أي: أنتم ﴿بصيرا﴾ أي: محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره ولما كان ما مضى من وصف الكفار يشمل كفار مكة وغيرهم عينهم بسبب كفهم النبيّ ﷺ والمؤمنين عن البيت الحرام.
بقوله تعالى: ﴿هم﴾ أي: أهل مكة ومن لاقهم ﴿الذين كفروا﴾ أي: أوغلوا في هذا الوصف ببواطنهم وظواهرهم ﴿وصدّوكم﴾ زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية ﴿عن المسجد الحرام﴾ أي: منعوكم الوصول إلى مكة ونفس المسجد والكعبة للإحلال مما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة.
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم كل منهما يصدق حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله ﷺ من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش فسار النبي ﷺ حتى إذا كان بغدير الإشطاط قريباً من عسفان أتاه عتبة الخزاعي.
وقال: إنّ قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت الحرام.
فقال النبيّ ﷺ أشيروا عليّ أيها الناس أترون أني أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر يا رسول الله إنما جئت عامداً لهذا البيت لا نريد قتال أحد ولا حرباً فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال امضوا على اسم الله فنفروا قال النبيّ ﷺ إنّ خالداً بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بغبرة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش وسار النبي ﷺ حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته. فقال الناس: حل حل فألحت فقالوا: خلأت أي حرنت القصواء.
فقال النبيّ ﷺ ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً فلم تلبث الناس أن نزحوه وشكا الناس إلى النبيّ ﷺ العطش فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبيّ ﷺ فنزل في البئر فغرزه في جوفه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ﷺ من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي نزلا مع جمع أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت الحرام فقال النبي ﷺ إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدّة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن أبوا


الصفحة التالية
Icon