ما شاء الله. قال إبراهيم بن أدهم أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً، وقال سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل: يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب زينته لي حوّاء، قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حوّاء عند ذلك، فقيل: عليك الرنة وعلى بناتك فلما أكلا منها سقطت عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأُخرجا من الجنة فذلك قوله تعالى: ﴿وقلنا اهبطوا﴾ خطاب لآدم وحوّاء لقوله تعالى: ﴿قال اهبطا منها جميعاً﴾ (طه، ١٢٣) وجمع الضمير لأنهما أصل الإنس فكأنهما الإنس كلهم أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة أو دخلها مسارقة أو من السماء لا من الباب على الخلاف المتقدّم، وقيل: هما وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب بأرض الهند على جبل يقال له: نود وحوّاء بجدّة وإبليس بالإبلة وقيل: ببيسان بالبصرة على أميال والحية بأصبهان، وقوله تعالى: ﴿بعضكم لبعض عدوّ﴾ حال استغنى فيها عن الواو بالضمير والمعنى متعادين، فإن كان الخطاب لآدم وحوّاء فقط فالمراد ببعضكم: بعض الذرّية أي: بعض ذرّيتكم لبعض عدوّ من ظلم بعضهم بعضاً، وإن كان الخطاب لهما ولإبليس والحية فالمراد العداوة بين المؤمنين من ذرّية آدم والحية وبين إبليس، قال الله عز وجل: ﴿إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين﴾ (الأعراف، ٢٢)، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال: من تركهنّ خشية أو مخافة تأثر فليس منا، وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ، وروي أنه نهى عن ذوات البيوت.
وروي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ ﷺ «أنّ بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» ﴿ولكم في الأرض مستقرّ﴾ أي: موضع قرار ﴿ومتاع﴾ ما تتمتعون به من نباتها ﴿إلى حين﴾ أي: وقت إنقضاء آجالكم ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات﴾ أي: استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها وهي ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ (الأعراف، ٢٣) الآية، وقيل: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «قال آدم: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: يا رب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم»، رواه الحاكم وصححه. وقول آدم أراجعي بتخفيف الياء اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعل لاعتماده على الاستفهام، أو مبتدأ خبره ما قبله، وقرأ ابن كثير بنصب الميم من آدم ورفع التاء من كلمات على أنها تلقته، والباقون برفع الميم وكسر التاء والكسر هذا علامة النصب لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة ﴿فتاب عليه﴾ أي: قبل توبته وإنما رتب تاب عليه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمن تلقي الكلمات معنى التوبة وهو الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه وردّ المظالم إن كانت واكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعاً له في الحكم، ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن ﴿إنه هو التوّاب﴾ الرجاع على عباده بالمغفرة، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة، وإذا وصف بها البارىء
الله على الظالمين} فبيّن تعالى أنهم في الحال ملعونون من عند الله، وهذه هي الصفة الرابعة، ثم وصفهم بالصفة الخامسة بقوله تعالى:
﴿الذين يصدّون عن سبيل الله﴾ أي: دينه، ثم وصفهم بالصفة السادسة بقوله تعالى: ﴿ويبغونها﴾ أي: يطلبون السبيل ﴿عوجاً﴾ أي: معوجة، أي: كأنهم ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العامّي: إنه يبغي عوجاً، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيف الاستقامة، وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات، ثم وصفهم بالصفة السابعة بقوله تعالى: ﴿وهم﴾ أي: والحال أنهم ﴿بالآخرة هم كافرون﴾ وتكرير لفظ هم لتأكيد كفرهم وتوغلهم فيه. الصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله كما قال تعالى:
﴿أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض﴾ أي: ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم إذ لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه، فإنّ هرب العبد من عذاب الله تعالى محال؛ لأنه تعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالقرب والبعد، والقوة والضعف. الصفة التاسعة: أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عقاب الله تعالى عنهم كما قال تعالى: ﴿ما كان لهم من دون الله﴾ أي: غيره ﴿من أولياء﴾ أي: أنصار يمنعوهم من عذابه. الصفة العاشرة: مضاعفة العذاب كما قال تعالى: ﴿يضاعف لهم العذاب﴾ أي: بسبب إضلالهم غيرهم، وقيل: لأنّهم كفروا بالله وكفروا بالبعث والنشور. الصفة الحادية عشرة: قوله تعالى: ﴿وما كانوا يستطيعون السمع﴾ قال قتادة: صم عن سماع الحق فلا يسمعون خيرا فينتفعون به ﴿وما كانوا يبصرون﴾ خيراً فيأخذوا به. قال ابن عباس: أخبر الله تعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعة الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، أمّا في الدنيا فإنه قال: ﴿ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون﴾ وأمّا في الآخرة فإنه قال: ﴿فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم﴾ (القلم، ٤٢، ٤٢). الصفة الثانية عشرة: قوله تعالى:
﴿أولئك الذين خسروا أنفسهم﴾ فإنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان مصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم وذلك أعظم وجوه الخسرانات. الصفة الثالثة عشرة: قوله تعالى ﴿وضلّ﴾ أي: غاب ﴿عنهم ما كانوا يفترون﴾ على الله تعالى من دعوى الشريك وأنّ لآلهة تشفع لهم. الصفة الرابعة عشرة: قوله تعالى:
﴿لاجرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون﴾ أي: لا أحد أبين وأكثر خسراناً منهم.
تنبيه: قال الفرّاء: إنّ لا جرم بمنزلة قولنا لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. تقول العرب: لا جرم إنك محسن على معنى حقاً إنك محسن. وقال الزجاج: إنّ كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجرم معناه: كسب ذلك الفعل والمعنى: لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب. وقال سيبويه: لا ردّ على أهل الكفر كما مرّ. وجرم معناه: أحق والمعنى: أنه أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر:

*ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أراد أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا، ولما ذكر تعالى عقوبة الكفار وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة بقوله تعالى:
{إنّ الذين آمنوا وعملوا
لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين، فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليه السلام بقوله ﴿فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين﴾ (الشعراء: ٨٣)
وقال إبراهيم: ﴿هب لي حكماً وألحقني بالصالحين﴾ (الشعراء، ٨٣).
أجيب: بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية، ثم إنّ سليمان عليه السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك.
﴿وتفقد الطير﴾ أي: طلبها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير ﴿فقال ما لي لا أرى الهدهد﴾ أي: أهو حاضر ﴿أم كان من الغائبين﴾ أم منقطعة، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره، فقال مالي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا فبأي: دين يدين يا نبيّ الله؟ قال بدين الحنيفية: فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحاً وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يميناً وشمالاً فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال أنا من هذه البلاد، قال ومن ملكها؟ قال امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال
الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى
فو الذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري. هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فقال بديل: سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي ﷺ فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد. قالوا: بلى قال: أولست بالولد. قالوا بلى. فقال فهل تتهموني قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال:
فإنّ هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي ﷺ فقال له النبيّ ﷺ نحواً من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت أحداً من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فو الله إني أرى وجوهاً وأشواباً من الناس خليقاً أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر الصدّيق: امصص بظر اللات والعزى أنحن نفر عنه وندعه. فقال: من ذا. قالوا: أبو بكر فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي ﷺ فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس النبيّ ﷺ ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله ﷺ فرفع عروة رأسه وقال: من هذا قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك. وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم.
فقال النبي ﷺ أمّا الإسلام فهدم ما قبله وأمّا المال فلست منه في شيء ثم إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّ ﷺ بعينيه قال: فو الله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن أي ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن أي ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم وما يجدون النظر إليه تعظيماً له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف على النبيّ ﷺ وأصحابه قال النبيّ ﷺ هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدّوا عن البيت.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش. فلما رآه رسول الله ﷺ قال: إنّ هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه


الصفحة التالية
Icon