الذي خلق له فقد أسرف وجاوز واعتدى لأنّ وضع الشيء في غير محله الذي وضع له إسراف لأن أدبار الرجال ليست محلاً للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان.
روي أنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس لعنه الله تعالى لأنّ بلادهم أخصبت بالزرع والثمار وانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شاب ثم دعا إلى نفسه فكان أوّل من نكح في دبره، وقال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فأذوهم فعرض لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، وقال لهم: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فلما ألحّ عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً حساناً فاستخنثوا واستحكم ذلك فيهم.
[وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ]
له حين وبخهم على فعلهم القبيح وارتكابهم ما حرّم الله تعالى عليهم من العمل الخبيث ﴿إلا أن قالوا﴾ أي: قال بعضهم لبعض ﴿أخرجوهم من قريتكم﴾ أي: ما جاؤوا بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بنصيحته وكلامه من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم وقولهم: ﴿إنهم أناس يتطهرون﴾ أي: يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال سخرية بهم وبتطهيرهم من الفواحش وافتخاراً بما كانوا فيه من القاذورات كما تقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتنزه.
﴿فأنجيناه﴾ أي لوطاً ﴿وأهله﴾ أي: من آمن به، وقوله تعالى: ﴿إلا امرأته﴾ استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر موالية لأهل سذوم ﴿كانت من الغابرين﴾ أي: من الذين غبروا أي: بقوا في ديارهم فهلكوا.
وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت وإنما قال تعالى: ﴿من الغابرين﴾ ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الذكور على الإناث.
﴿وأمطرنا عليهم مطراً﴾ أي: نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله تعالى: ﴿وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل﴾ (الحجر، ٧٤)
أي: قد عجنت بالكبريت والنار، يقال: مطرت السماء وأمطرت، وقال أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطر وفي الرحمة مطر، وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم ﴿فانظر﴾ أي: أيها الإنسان ﴿كيف كان عاقبة المجرمين﴾.
روي أنّ تاجراً منهم كان في الحرم فوقف الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه، وقال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة كما قال تعالى: ﴿فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل﴾ (الحجر، ٧٤).
﴿وإلى مدين﴾ أي: وأرسلنا إلى ولد مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ﴿أخاهم﴾ في النسب لا في الدين ﴿شعيباً﴾ بن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه عليه السلام وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان ﴿قال﴾ أي: شعيب عليه السلام ﴿يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة﴾ أي: معجزة تدلّ على صدق ما جئت به ﴿من ربكم﴾ أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به.
فإن قيل: ما كانت معجزته إذ لم تذكر له معجزة؟ أجيب: بأنه قد وقع العلم بأنه كان له معجزة لقوله: ﴿قد جاءتكم بينة من ربكم﴾ ولأنه
غروبها} صلاة العصر ﴿ومن أناء الليل﴾ أي: ساعاته ﴿فسبح﴾ أي: صل المغرب والعشاء، وقوله تعالى: ﴿وأطراف النهار﴾ معطوف على محل من آناء المنصوب أي: صل الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني قال ابن عباس: دخلت الصلوات الخمس في ذلك، وقيل: المراد الصلوات الخمس والنوافل؛ لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين.
وأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، فبقي قوله: ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار للنوافل، وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل التسبيح على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات.
فإن قيل: النهار له طرفان، فكيف قال: وأطراف النهار، ولم يقل: طرفي النهار أجيب بوجهين أظهرهما: أنه إنما جمع لأنه يلزم في كل نهار ويعود، والثاني: أن أقل الجمع اثنان، وقرأ قوله تعالى ﴿لعلك ترضى﴾ أبو بكر والكسائي بضم التاء أي: ترضى بما تنال من الثواب كقوله تعالى: ﴿وكان عند ربه مرضياً﴾ (مريم، ٥٥)، وقرأ الباقون بفتحها أي: ترضى بما تنال من الشفاعة قال تعالى: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ (الضحى، ٥)، وقال تعالى: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً﴾ (الإسراء، س٧٩)، والمعنى: على القراءتين لا يختلف؛ لأن الله تعالى إذا أرضاه، فقد رضيه، وإذا رضيه، فقد أرضاه، ولما كانت النفس ميالة إلى الدنيا مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخليها عن ذلك هو الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها قال تعالى مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك:
﴿ولا تمدن﴾ مؤكداً له بالنون الثقيلة ﴿عينيك﴾ أي: لا تطول نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها ﴿إلى ما متعنا به﴾ في هذه الحياة الفانية ﴿أزواجاً﴾ أي: أصنافاً ﴿منهم﴾ أي: الكفرة استحساناً له وتمنياً أن يكون لك مثله والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، وقوله تعالى: ﴿زهرة الحياة الدنيا﴾ أي: زينتها وبهجتها منصوب بمحذوف دل عليه متعنا، أو به على تضمنه معنى أعطينا، فأزواجاً مفعول أول، وزهرة هو الثاني، وذكر ابن عادل غير هذين الوجهين سبعة أوجه لا حاجة لنا بذكرها، ثم علل تعالى تمتعهم بقوله تعالى: ﴿لنفتنهم فيه﴾ أي: لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغرّ من لم يتأمل معناه حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه ﴿ورزق ربك﴾ في الجنة ﴿خير﴾ مما أوتوه في الدنيا ﴿وأبقى﴾ أي: أدوم أو ما رزقته من نعمة الإسلام والنبوّة، أو لأنّ أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال خير وأبقى، قال الزمخشري: لأن الله تعالى لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى زرقاً انتهى، وهذا جار على مذهبه المخالف لأهل السنة من أن الحرام لا يسمى زرقاً، وقال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله: ولا تمدَّن عينيك ليس هو النظر بل هو الأسف أي: لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، وقال أبو رافع: نزلت هذه الآية في ضيق نزل بالنبيّ ﷺ فبعثني إلى يهودي يبيع أو يستلف إلى مدة، فقال: والله لا أفعل إلا برهن، فأخبرته بقوله فقال ﷺ «إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض احمل إليه درعي الحديد»
مسلم قالت: قلت يا رسول الله ما مكثه في الأرض؟ قال: «أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدراً، قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح». وفي رواية أبي داود: «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته» ومنه: «ثم ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله» وعن حذيفة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن مع الدجال إذا خرج ماء وناراً، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد وأما الذي يرى الناس أنه ماء فنار تحرق، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى الناس أنه نار فإنه ماء عذب بارد». وعن أبي هريرة: «ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار فالتي يقول: إنها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه» وعن المغيرة بن شعبة قال: «ما سأل أحد رسول الله ﷺ عن الدجال أكثر ما سألته وأنه قال لي: ما يضرك قلت إنهم يقولون: أن معه جبال خبز ونهر ماء قال: هو أهون على الله من ذلك».
أي: أهون على الله من أن يجعل ما خلق الله بيده مضلاً للمؤمنين ومشككاً لقلوبهم، بل إنما جعله الله تعالى ليزدادوا إيماناً وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين، وليس معناه ليس معه شيء من ذلك لما مر في الحديث أن معه ماء وناراً وذكر فيه أحاديث كثيرة، وفي هذا القدر تذكرة لأولي الألباب أجارنا الله تعالى وأحبابنا من فتنته آمين.
ولما بين تعالى أن القول بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله والتضرع إليه لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات.
ولما كان أشق أنواع الطاعات الدعاء والتضرع لا جرم أمر الله تعالى به فقال سبحانه:
﴿وقال ربكم﴾ أي: المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة ﴿ادعوني﴾ أي: اعبدوني دون غيري ﴿أستجب لكم﴾ أي: أثبكم وأغفر لكم بقرينة قوله تعالى: ﴿إن الذين يستكبرون﴾ أي: يوجدون الكبر ﴿عن عبادتي﴾ أي: عن الاستجابة لي فيما دعوت إليه من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي ﴿سيدخلون﴾ أي: بوعد لا خلف فيه ﴿جهنم﴾ فتلقاهم جزاء على كفرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة ﴿داخرين﴾ أي: صاغرين حقيرين ذليلين وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة والمراد بالعبادة: الدعاء فإنه من أبوابها، روي عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الدعاء مخ العبادة» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه»، فإن قيل: أنه ﷺ قال حكاية عن ربه عز وجل: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل فكيف من لم يسأل الله يغضب؟ أجيب: بأنه إن كان مستغرقاً في الثناء على الله تعالى فهو أفضل من الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة والاستغراق في معرفة الله تعالى وجلاله أفضل من طلب الجنة وإلا فالدعاء أفضل، وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله
إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق﴾ (الأنعام: ١٥١)
وكانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله:
*ومنا الذي منع الوائدات | وأحيا الوئيد فلم توءد* |
فإن قيل: ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ أجيب: بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾ (المائدة: ١١٦)
. وروي أنّ قيس بن عاصم «جاء إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال ﷺ أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل؟ فقال له ﷺ أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت». وروي أنه ﷺ قال: «إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدها بيدها ملطخاً بدمائه فيقول: يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني».
﴿وإذا الصحف نشرت﴾ أي: فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت، وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول: ﴿ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ (الكهف: ٤٩)
. وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه ﷺ قال: «يحشر الناس حفاة عراة» فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: «شغل الناس يا أمّ سلمة». قالت: وما يشغلهم، قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل». وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان. ﴿ {
{وإذا السماء﴾ أي: هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. ﴿كشطت﴾ أي: نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي: يقال: كشطت البعير كشطاً نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، والمعنى: أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي: طويت.
﴿وإذا الجحيم﴾ أي: النار الشديدة التأجج ﴿سعرت﴾ أي: أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت الناء وأسعرتها. روي أنه ﷺ قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» واحتج بهذه الآية من قال: النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها.
﴿وإذا الجنة﴾ أي: البستان