أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله تعالى في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقته وهو القتل الذي أمرهم الله تعالى به بعد ذلك، والطريق الثاني: أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين كانوا في زمن النبيّ ﷺ فوصف اليهود الذين كانوا في زمن النبيّ ﷺ باتخاذ العجل وإن كان ما فعل ذلك إلا آباؤهم لأنهم رضوا بفعلهم ولأنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب يقولون للأمم: أفعلتم كذا وكذا؟ وإنما فعله من مضى من آبائهم. ثم حكم عليهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا كما قال تعالى في صفتهم: ﴿ضربت عليهم الذلة والمسكنة﴾ (البقرة، ٦١)
﴿وكذلك﴾ أي: كما جزيناهم ﴿نجزي المفترين﴾ أي: كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله في الآخرة والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية لأنّ المبتدع مفتر في دين الله.
﴿والذين عملوا السيئات﴾ أي: عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب حتى الكفر ﴿ثم تابوا﴾ أي: رجعوا عنها إلى الله تعالى ﴿من بعدها﴾ أي: من بعد أعمالهم السيئة ﴿وآمنوا﴾ أي: وصدقوا بالله تعالى بأنه لا إله غيره وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب وإن عظمت ﴿إنّ ربك﴾ أي: يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب ﴿من بعدها﴾ أي: التوبة ﴿لغفور﴾ أي: ستور عليهم محاء لما كان منهم ﴿رحيم﴾ بهم أي: منعم عليهم بالجنة وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأنّ الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين، وتقدير الآية: أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته.
﴿ولما سكت﴾ أي: سكن ﴿عن موسى الغضب﴾ أي: باعتذار هارون وبتوبتهم فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال: رب اغفر لي ولأخي، وفي هذا الكلام استعارتان استعارة بالكناية في الغضب عن الشخص الناطق واستعارة تصريحية أو تخييلية في السكوت عن طفء غضب موسى وسكون هيجانه وغليانه، وقال عكرمة: إنّ المعنى: سكت موسى عن الغضب فقلب كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة ﴿أخذ الألواح﴾ أي: وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه عليه فكذلك أخذ الألواح التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه، قال الإمام الرازي: وظاهر هذا يدلّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك اه. ومرّت الإشارة إلى ما يدلّ على الجمع بين ما هنا وبين ما مرّ ﴿وفي نسختها﴾ أي: ما نسخ فيها من كتب والنسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتاباً من كتاب حرفاً بحرف فقد نسخت ذلك الكتاب فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع لأن الألواح نسخت من اللوح المحفوظ والنسخة فعلة بمعنى مفعولة كالخطبة، وقيل: إنّ موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردّت عليه في لوحين، وعلى قول من قال: إنّ الألواح لم تكسر وأخذها موسى بعينها بعدما ألقاها يكون المعنى: وفي نسختها أي: المكتوب فيها ﴿هدى﴾ أي: بيان للحق ﴿ورحمة﴾ أي: إرشاد إلى الصلاح
ورفع القصر فقلبه، فصاروا منكبين وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكبين على رؤوسهم تسيل دماؤهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول: هذا أو نحوه حتى رق قلب أيوب وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: ليت أمّي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك، فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فسبقت توبته إلى الله عزّ وجلّ، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً.
وقال: إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فإنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فقال الله عزّ وجلّ: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة لأيوب ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعالمين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب، فانقض عدوّ الله سريعاً فوجد أيوب في مصلاه ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها سائر جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى بقل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، ولما رأى الثلاثة من أصحابه وهم اليفن وبلدد وصابر ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه، فبكتوه ولاموه، وقالوا له: تب إلى الله تعالى من الذنب الذي عوقبت عليه، قال وحضره معهم فتى حديث السنّ قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول، وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكنكم تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؛ ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط
شيئاً من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئاً منه من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم، ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخبرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند
بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة.
تنبيه: اختلف في مكان السجدة فقيل: هو عند قوله تعالى: ﴿إياه تعبدون﴾ وهو قول ابن مسعود والحسن رضي الله عنهما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما لأنه ذكر السجدة قبيله، والصحيح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه عند قوله تعالى ﴿لا يسأمون﴾ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن عنده تم الكلام.
ولما ذكر تعالى الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال تعالى:
﴿ومن آياته﴾ الدالة على قدرته ووحدانيته ﴿أنك﴾ أي: أيها الإنسان ﴿ترى الأرض﴾ أي: بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرت ﴿خاشعة﴾ أي: يابسة لا نبات فيها والخشوع التذلل والتقاصر فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها كما وصفها بالهمود في قوله تعالى: ﴿وترى الأرض هامدة﴾ (الحج: ٥)
وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو، كما قال تعالى: ﴿فإذا أنزلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿عليها الماء﴾ من الغمام أو غيره ﴿اهتزت﴾ أي: تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه ﴿وربت﴾ أي: تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها وتشعبت عروقه وغلظت سوقه فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه بعدما كانت قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة، وقرأ السوسي: ترى الأرض في الوصل بالإمالة بخلاف منه، والباقون بالفتح، وفي الوقف أمال محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وورش بين بين، والباقون بالفتح، ثم استدل بذلك على القدرة على البعث فقال تعالى: ﴿إن الذي أحياها﴾ أي: بما أخرج من نباتها بعد أن كانت ميتة ﴿لمحيي الموتى﴾ كما فعل بالنبات من غير فرق ﴿إنه على كل شيء قدير﴾ فهو قادر على إحياء الأرض بعد موتها وعلى إحياء هذه الأجساد بعد موتها لأن الممكنات بالنسبة إلى القدرة متساوية فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره.
ثم إنه تعالى هدد من يجادل في آياته بإلقاء الشبهات فيها بقوله تعالى:
﴿إن الذين يلحدون في آياتنا﴾ أي: القرآن على ما لها من العظمة بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاز فيها، وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد يقال: لحد الحافر وألحد إذا مال عن الاستقامة بحفره في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم اختص في العرف بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، قال مجاهد: يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط، وقال السدي: يعاندون ويشاقون ﴿لا يخفون علينا﴾ أي: في وقت من الأوقات ونحن قادرون على أخذهم متى شئنا أخذنا ولا يعجل إلا من يخشى الفوات، قال مقاتل: نزلت في أبي جهل وقوله تعالى ﴿أفمن يلقى في النار﴾ أي: على وجهه بأيسر أمر ﴿خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة﴾ استفهام بمعنى التقرير والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة حين يجمع الله تعالى عباده للعرض عليه للحكم بينهم بالعدل، قال البغوي قيل: هو حمزة وقيل: هو عثمان وقيل: عمار بن ياسر.
فائدة: أم في الرسم مقطوعة وقوله تعالى: ﴿اعملوا ما شئتم﴾ أي: فقد علمتم
ربك} اه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سبح أي: صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل: سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ ﷺ قرأ ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ فقال: «سبحان ربي الأعلى». وعن عقبة بن عامر «أنه لما نزلت ﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ (الواقعة: ٧٤)
قال لنا رسول الله ﷺ «اجعلوها في ركوعكم»
. ولما نزل ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ قال: اجعلوها في سجودكم». وروي أنه ﷺ كان يقول ذلك. وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل».
ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى؟
فقال تعالى: ﴿الذي خلق﴾ أي: أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء ﴿فسوّى﴾ أي: مخلوقه. وقال الرازي: يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً: أحدها: اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ (التين: ٤)
وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ (المؤمنون: ١٤)
. ثانيها: كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها: أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.
ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه: أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية: هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب.
وقرأ ﴿والذي قدر﴾ الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي: وهما بمعنى واحد، أي: أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك ﴿فهدى﴾ قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي: في قوله تعالى: ﴿فهدى﴾ عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه: ﴿أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ (طه: ٥٠)
أي: الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل: قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً. وقال السدّي: قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
يقال: إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل: ﴿فهدى﴾ أي: دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً،


الصفحة التالية
Icon