وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين سراً: اثبتوا على دين محمد ﷺ فإنه حق ولا يتبعونه.
﴿أتأمرون الناس بالبرّ﴾ أي: بالإيمان بمحمد ﷺ في ذلك تقريع مع توبيخ وتعجيب، والبرّ شرعاً التوسع في الخير من البرّ بالفتح وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ولذلك قيل: البر ثلاثة: برّ في عبادة الله، وبر في معاملة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب ﴿وتنسون أنفسكم﴾ أي: تتركونها من البرّ كالمنسيات، وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ﴿وأنتم تتلون الكتاب﴾ أي: التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل ﴿أفلا تعقلون﴾ سوء فعلكم فيصدّكم عنه، أو فلا عقل لكم يمنعكم عما تعملون من عدم موافقة عاقبته لكم والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه وخبث نفسه وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظاً غير متعظ نفسه، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر، ولكن روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» وعن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه أي: فتنقطع أمعاؤه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» وقال شعبة عن الأعمش: فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه ﴿واستعينوا﴾ أي: اطلبوا المعونة على أموركم ﴿بالصبر﴾ أي: الحبس للنفس على ما تكره ﴿والصلاة﴾
أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين وهما الأكل والجماع.
روى الإمام أحمد وغيره «أنّ النبيّ ﷺ كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة» أي: لجأ إليها، وحز به ـ بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة: أهمه ونزل به، وقيل: الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة، وقيل: الواو بمعنى على أي: واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها﴾ (طه، ١٣٢) ويحتمل أن يراد بالصلاة: الدعاء ﴿وإنها﴾ أي: الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروباً من الصبر كما قال تعالى: ﴿وا ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة، ٦٢)
إن شاء} تعجيله لكم فإن أمره إليه إن شاء عجله، وإن شاء أخره لا إليّ ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ أي: بفائتين الله تعالى.
ولما أجاب نوح عليه السلام عن شأنهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال:
﴿ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم﴾ أي: يضلكم وجواب الشرط محذوف دل عليه ولا ينفعكم نصحي. وتقدير الكلام: إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، فهو من باب اعتراض الشرط. على الشرط ونظير ذلك ما لو قال رجل لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فدخلت ثم كلمت لم تطلق فيشترط في وجوب الحكم وقوع الشرط الثاني قبل وقوع الأوّل. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى قد يريد الكفر من العبد فإنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه ﴿هو ربكم﴾ أي: خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته ﴿وإليه ترجعون﴾ فيجازيكم على أعمالكم قال تعالى: ﴿أم﴾ أي: بل ﴿يقولون افتراه﴾ أي: اختلقه وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم ﴿قل﴾ لهم ﴿إن افتريته فعليّ إجرامي﴾ وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنّ المعنى فعليّ إثم إجرامي، والإجرام اقتراف المحظور. وفي الآية محذوف آخر وهو أنّ المعنى إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليها ﴿وأنا بريء مما تجرمون﴾ أي: من عقاب جرمكم في إسناد الافتراء إليّ.
تنبيه: أكثر المفسرين على أنّ هذا من بقية كلام نوح عليه السلام مع قومه. وقال مقاتل: أم يقولون، أي: المشركون من كفار مكة: افتراه، أي: محمد ﷺ اختلق القرآن من عند نفسه. وهذه الآية وقعت في قصة محمد ﷺ في أثناء قصة نوح عليه السلام. قال الرازي: وقوله بعيد جدًّا. ﴿وأوحي إلى نوحٍ أنه لن يؤمن من قومك﴾ أي: لن يستمرّ على الإيمان لقوله تعالى: ﴿إلا من قد آمنّ﴾. قال ابن عباس: إنّ قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات، فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله تعالى. وروي أنّ شيخاً منهم جاء متوكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال لابنه: لا يغوينك هذا الشيخ المجنون فقال: يا أبتاه مكني من العصا فأخذها من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجةً منكرةً، فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴿فلا تبتئس﴾ أي: لا تحزن عليهم فإني مهلكهم ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كانوا يفعلون﴾ من الشرك وننقذك منهم، فحينئذ دعا عليهم نوح عليه السلام فقال: ﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا﴾ (نوح، ٢٦). وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي: إنه بلغه أنهم يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادوا في المعصية، واشتدّ عليه منهم البلاء، وهو ينظر من الجيل إلى الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنجس من الذين قبلهم، ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكى إلى الله تعالى، فقال: ﴿رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً﴾ (نوح، ٥) حتى قال: ﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا﴾ (نوح، ٢٦) فأوحى الله تعالى إليه:
﴿واصنع الفلك﴾ أي: السفينة ﴿بأعيننا﴾ قال ابن
السجود له وردّاً على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿الذي يخرج الخبء﴾ وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله: ﴿في السموات والأرض﴾ لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى ﴿ويعلم ما تخفون﴾ في قلوبهم ﴿وما تعلنون﴾ بألسنتهم، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما، والباقون بالتحتية، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله ﴿أعمالهم﴾ ﴿فصدهم﴾ و ﴿فهم﴾ وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ، ويجوز أن تكون إلتفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتاً إليه وقوله:
﴿الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم﴾ أي: الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكاً لما وصف عرش بلقيس بالعظم، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم، فإن قيل: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟.
أجيب: بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصاً في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون؟ الجمهور على الأوّل، ولما فرغ الهدهد من كلامه.
﴿قال﴾ له سليمان ﴿سننظر﴾ أي: نختبر ما قلته ﴿أصدقت﴾ فيه فنعذرك ﴿أم كنت من الكاذبين﴾ أي: معروفاً بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقاً في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت، وأيضاً لمحافظة الفواصل، ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له.
﴿اذهب بكتابي هذا﴾ فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله: ﴿فألقه إليهم﴾ أي: الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس وذلك للاهتمام بأمر الدين، وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد بخلاف عنه فألقه بسكون الهاء، واختلس الكسرة قالون وهشام بخلاف عنه، والباقون بإشباع الكسرة. ﴿ثم﴾ قال له إذا ألقيته إليهم ﴿تولّ﴾ أي: تنحّ ﴿عنهم﴾ إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك ﴿فانظر ماذا يرجعون﴾ أي: يردّون من الجواب، وقال ابن زيد في الآية تقديم وتأخير، مجازها اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم توّل عنهم أي: انصرف إليّ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام.
قال قتادة: فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت
المراد بالفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال جل ذكره ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق وقوله تعالى ﴿بالحق﴾ فيه أربعة أوجه.
أحدها: أنه يتعلق بصدق. ثانيها: أن يكون صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض. ثالثها: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق. رابعها: له قسم وجوابه ﴿لتدخلن﴾ أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره ﴿المسجد﴾ أي: الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلا بدخول الحرم ﴿الحرام﴾ أي: الذي أجاره من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم. قال الزمخشري: وعلى تقديره قسماً إمّا أن يكون قسماً بالله تعالى فإنّ الحق من أسمائه تعالى وأمّا أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل.
فإن قيل: ما وجه دخول ﴿إن شاء الله﴾ أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال أجيب بأوجه
أحدها: أنه تعالى ذكره تعليماً لعباده الأدب لأن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدبين بآداب الله ومقتدين بسنته لقوله تعالى ﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف: ٢٣ ـ ٢٤)
ثانيها: أن يريد لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله. ولم يمت منكم أحد.
ثالثها: أن ذلك كان على لسان ملك فأدخل الملك إن شاء الله.
رابعها: إنها حكاية ما قال رسول الله ﷺ لأصحابه وقص عليهم. وقال أبو عبيدة: أن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. كقوله تعالى ﴿إن كنتم تعلمون﴾ (الجمعة: ٩)
خامسها: إنها للتبرّك وقيل هي متعلقة بآمنين فالاستثناء مواقع على الأمن لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك كقوله ﷺ عند دخول المقبرة وإنا إن شاء الله بكم لاحقون فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت. وقوله تعالى: ﴿آمنين﴾ حال من فاعل لتدخلن وكذا ﴿محلقين رؤوسكم﴾ أي: كلها ﴿ومقصرين﴾ أي: بعضها أي منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين لا تخشون إلا الله تعالى وفيه إشارة إلى أنهم يتمون الحج من أوّله إلى آخره فقوله ﴿لتدخلن﴾ فيه إشارة إلى الأوّل وقوله ﴿محلقّين﴾ ﴿ومقصرين﴾ إشارة إلى الآخر فإن قيل محلقين حال الداخلين والداخل لا يكون إلا محرماً والمحرم لا يكون محلقاً أجيب بأنّ قوله آمنين معناه متمكنين من أن تتموا الحج محلقين ومقصرين وأشار بصيغة التفعيل إلى الكثرة فيهما غير أن التقديم يفهم أنّ الأول أكثر.
وقوله تعالى: ﴿لا تخافون﴾ أي: لا يتجدّد لكم خوف بعد ذلك يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً ثالثة أمّا من فاعل لتدخلنّ أو من ضمير آمنين أو محلقين أو مقصرين فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلنّ فهي حال للتوكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدّرة إلا قوله ﴿لا تخافون﴾ إذا جعل حالاً فإنها مقدّرة أيضاً فإن قيل: قوله تعالى: ﴿لا تخافون﴾ معناه غير خائفين وذلك يحصل بقوله تعالى: ﴿آمنين﴾ أجيب: بأنّ فيه كمال الأمن لأنّ بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم. فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم من الإحرام ﴿فعلم﴾ أي: الله في الصلح من المصلحة ﴿ما لم تعلموا﴾ من المصالح فإنّ الصلاح


الصفحة التالية
Icon