﴿وما رميت﴾ يا محمد ﴿إذ رميت ولكنّ الله رمى﴾ على ثلاثة أقوال: الأوّل وهو قول أكثر المفسرين نزلت في يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله ﷺ لما ندب إلى قتال بدر نزلوا بدراً ووردت عليهم روّاد قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاصي بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله ﷺ فقال لهما: أين قريش؟ فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى الكثيب العقنقل، وهو الكثيب العظيم المتداخل الرمل، قاله الجوهريّ، فقال لهما رسول الله ﷺ «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: ما عدّتهم، قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوماً عشرة ويوماً تسعة، فقال رسول الله ﷺ «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وعدّا جماعة أخرى، فقال ﷺ «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» فلما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام: «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعليّ رضي الله
عنه: «أعطني قبضة من حصباء الوادي» فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» أي: قبحت، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخره، فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، والمعنى إنّ الرمية التي رميتها بلغ أثرها إلى ما لا يبلغه أثر البشر لكونها كانت برمي الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم؛ لأن كفاً من الحصباء لا يملأ عيون
الجيش الكثير برمية البشر فأثبت الرمية لرسول الله ﷺ لأنّ صورتها وجدت منه ونفاها عنه؛ لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله تعالى، فكان الله تعالى هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول ﷺ أصلاً.
القول الثاني: إنها نزلت يوم خيبر، روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السهم حتى قتل لبابة بن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت.
القول الثالث: إنها نزلت في يوم أحد في قتل أبيّ بن خلف، وذلك إنه أتى النبيّ ﷺ بعظم رميم وفتته وقال: يا محمد من يحيي هذه وهي رميم؟ فقال ﷺ «يحييه الله، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك النار» فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله ﷺ إنّ عندي فرساً أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه، فقال له رسول الله ﷺ «بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» فلما كان يوم أحد أقبل أبيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول الله ﷺ فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال رسول الله ﷺ «استأخروا» ورماه بحربة كسر ضلعاً من أضلاعه، فمات ببعض الطريق فنزلت، والأصح الأوّل وإلا أدخل في أثناء القصة كلاماً أجنبياً عنها، وذلك لا يليق، وقال الرازي: لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿ولكن الله قتلهم﴾، ﴿ولكن الله رمى﴾ بكسر النون مخففة ورفع الهاء من اسم الله فيهما والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الهاء وقوله تعالى: ﴿وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً﴾ معطوف على قوله تعالى: {ولكن الله
بآياتنا} أي: ساعين بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه ﴿فأولئك﴾ أي: البعداء عن أسباب الكرم ﴿لهم عذاب مهين﴾ أي: شديد بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتنا والتكبر عن آياتنا.
فإن قيل: لم أدخل الفاء في خبر الثاني دون الأوّل؟ أجيب: بأن في ذلك تنبيهاً على أنّ إثابة المؤمنين بالجنان تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: ﴿لهم عذاب﴾ ولم يقل: هم في عذاب، ولما كان المؤمنون في حصر مع الكفار رغبهم الله في الهجرة بقوله تعالى:
﴿والذين هاجروا في سبيل الله﴾ أي: فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة ﴿ثم قتلوا﴾ في الجهاد بعد الهجرة، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه بقوله تعالى: ﴿أو ماتوا﴾ أي: من غير قتل ﴿ليرزقنّهم الله﴾ أي: الجامع لصفات الكمال ﴿رزقاً حسناً﴾ هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم ﴿وإنّ الله﴾ أي: الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة ﴿لهو خير الرازقين﴾ فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر.
فإن قيل: الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال: ﴿لهو خير الرازقين﴾ ؟ أجيب: بأنّ غير الله يسمى رازقاً على المجاز كقولهم: رزق السلطان الجيش أي: أعطاهم أرزاقهم، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى، ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالاً على ختام التي قبل:
﴿ليدخلنّهم مدخلاً يرضونه﴾ هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه، وقيل: هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع، وقرأ نافع بفتح الميم أي: دخولاً، أو مكان دخول، والباقون بالضم أي: إدخالاً أو مكان إدخال ﴿وإنّ الله﴾ أي: الذي عمت رحمته وتمت عظمته ﴿لعليم﴾ أي: بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره ﴿حليم﴾ عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى، فلا يعاجل أحداً بالعقوبة.
روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين
﴿ذلك﴾ أي: الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك ﴿ومن عاقب﴾ أي: جازى من المؤمنين ﴿بمثل ما عوقب به﴾ ظلماً من المشركين أي: قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام ﴿ثم بغي عليه﴾ أي: ظلم بإخراجه من منزله، قال مقاتل: نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم، فقال بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام، فأبى المشركون، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى: ﴿لينصرنّه الله﴾ أي: الذي لا كفء له ﴿إنّ الله﴾ أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿لعفو﴾ عن المؤمنين ﴿غفور﴾ لهم.
فإن قيل: لم سمى ابتداءً فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء؟
المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارهم وهممهم إلا من عصمه الله تعالى ﴿لجعلنا﴾ أي: في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضاً لها ﴿لمن يكفر﴾ وقوله تعالى: ﴿بالرحمن﴾ أي: العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها إلا بعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها الله تعالى من الرفق بالمؤمنين وقوله تعالى: ﴿لبيوتهم﴾ بدل من لمن بدل اشتمال بإعادة العامل واللامان للاختصاص ﴿سقفاً من فضة﴾ قال البقاعي: كأنه خصها أي: الفضة لإفادتها النور، وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء الموحدة والباقون بكسرها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسقفاً بفتح السين وسكون القاف على إرادة الجنس، والباقون بضمها جمعاً وقوله تعالى: ﴿ومعارج﴾ جمع معرج وهو السلم أي: من فضة أيضاً وسميت المصاعد من الدرج معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج ﴿عليها﴾ خاصة لتيسر أمرها لهم ﴿يظهرون﴾ أي: يعلون ويرتقون على ظهرها إلى المعالي.
﴿ولبيوتهم أبواباً﴾ أي: من فضة أيضاً وقوله تعالى ﴿وسرراً﴾ أي: من فضة جمع سرير ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله تعالى: ﴿عليها يتكئون﴾ ودل على ما هو أعظم من الفضة بقوله تعالى:
﴿وزخرفاً﴾ أي: ذهباً وزينة كاملة عامة.
تنبيه: زخرفاً يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي: وجعلنا لهم زخرفاً، وجوز الزمخشري: أن ينتصب عطفاً على محل من فضة، كأنه قيل: سقفاً من فضة وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي: بعضها كذا وبعضها كذا، وقيل: الزخرف هو الذهب لقوله تعالى: ﴿أو يكون لك بيت من زخرف﴾ (الإسراء: ٩٣)
فيكون المعنى ويجعل لهم مع ذلك ذهباً كثيراً، وقيل: الزخرف الزينة لقوله تعالى: ﴿حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت﴾ (يونس: ٢٤)
فيكون المعنى نعطيهم زينة عظيمة في كل باب ﴿وإن كل ذلك﴾ أي: البعيد من الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا ﴿لما متاع الحياة الدنيا﴾ أي: التي اسمها دال على دناءتها يتمتع به فيها ثم يزول، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بتشديد الميم بعد اللام بمعنى إلا حكى سيبويه: (أنشدتك الله لما فعلت) بمعنى إلا، وتكون أن نافية أي: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وقرأ الباقون: بالتخفيف فتكون إن هي المخففة من الثقيلة أي: وإنه كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.
﴿والآخرة﴾ أي: الجنة التي لا دار تعدلها بل لا دار في الحقيقة إلا هي ﴿عند ربك﴾ أي: المحسن إليك بأن جعلك أفضل الخلق ﴿للمتقين﴾ أي: الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم من الكفار، ولهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي ﷺ «ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» وقال ﷺ «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر قطرة ماء».
وروى المستورد بن شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله ﷺ على السخلة الميتة فقال رسول الله ﷺ أترى هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا: من هوانها ألقوها قال رسول الله ﷺ فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» أخرجه
لأنها قد تكتب لمن تهوى، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهي أبلغ من اللسان فأحب ﷺ أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها.
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، ﴿إن الإنسان﴾ أي: هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه ﴿ليطغى﴾ أي: من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته. ﴿ {
{أن رآه﴾ أي: رأى نفسه ﴿استغنى﴾ أي: وجد له الغنى بالمال وقيل: أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل، فقال: يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله ﷺ عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل: ﴿أن رآه استغنى﴾ بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله تعالى: ﴿أن رآه﴾ كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان، وأن رأى مفعول له.
﴿إنَّ إلى ربك﴾ أي: المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره ﴿الرجعى﴾ مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.
وقوله تعالى: ﴿أرأيت﴾ في مواضعها الثلاث للتعجب ﴿الذي ينهى﴾ أي: على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل. ﴿ {
{عبداً﴾ أي: من العبيد وهو النبيّ ﷺ ﴿إذا صلى﴾ أي: خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ ﷺ عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقالوا: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب،. قال: فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده، فقيل: له: مالك؟، فقال: إن بيني وبينه خندقاً من النار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله ﷺ لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله تعالى هذه الآية». وفي رواية «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد الترمذي: «عياناً». وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة وفائدة التنكير في قوله تعالى: ﴿عبداً﴾ الدلالة على أنه كامل العبودية، كأنه قيل: ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة وهذا عين الجهل.
وقيل: إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة ولا يدخل أيضاً منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع وقيام الليل والاعتكاف، لأنّ ذلك مصلحة إلا أن يأذن