النجدي، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال النجدي: بئس الرأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاوة لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق والله الشيخ النجدي، فقال أبو جهل لعنه الله تعالى: والله لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا تقوى بنو هاشم على
حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، فقال إبليس الملعون: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً القول ما قال لا أرى غيره، فتفرّقوا على قول أبي جهل مجمعين على قتله، فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبيّ ﷺ فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله ﷺ علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ثم خرج النبيّ ﷺ فأخذ قبضة من تراب، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: ﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فهم لا يبصرون﴾ (يس، ٩)
ومضى إلى الغار هو وأبو بكر، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت بمكة عنده، وكانت الودائع تودع عنده لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون علياً على فراش رسول الله ﷺ يحسبون إنه النبيّ ﷺ فلما أصبحوا بادروا إليه فرأوا علياً، فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم تكن تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً، ثم قدم المدينة وأبطل الله مكرهم، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾ ﴿ليثبتوك﴾ أي: يوثقوك ويحبسوك ﴿أو يقتلوك﴾ كلهم قتلة رجل واحد ﴿أو يخرجوك﴾ من مكة ﴿ويمكرون﴾ بك ﴿ويمكر الله﴾ أي: يردّ مكرهم عليهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه، وأمرك بالخروج إلى المدينة، وأخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا ﴿وا خير الماكرين﴾ أي: أعلمهم به، فلا ينفذ مكرهم دون مكره.
قال البيضاوي: وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، اه.
واعترض عليه بأنه لا يتعين في مثل ذلك المشاكلة بل يجوز أن يكون ذلك استعارة؛ لأنّ إطلاق المكر على إخفاء الله تعالى ما أوعده لمن استوجبه إن جعل باعتبار أنّ صورته تشبه صورة المكر فاستعارة، أو باعتبار الوقوع في صحبة مكر العبد فمشاكلة، وعلى هذا لا يحتاج كما قال الطيبي إلى وقوعه في صحبة مكر العبد قال: ومنه قول عليّ رضي الله عنه: من وسع الله تعالى عليه في دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع في عقله.
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ أي: القرآن ﴿قالوا﴾ أي: هؤلاء الذين ائتمروا في أمره ﷺ ﴿قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا﴾ وهذا غاية مكابرتهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لفعلوه وإلا فما منعهم
﴿من الملائكة رسلاً﴾ كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام ﴿ومن الناس﴾ كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ وعليهم نزلت حين قال المشركون: ﴿أأنزل عليه الذكر من بيننا﴾ (ص، ٨)
فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه ﴿إنّ الله﴾ أي: الذي له الجلال والجمال ﴿سميع﴾ لمقالتهم ﴿بصير﴾ بمن يتخذه رسولاً.
﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ أي: الرسل ﴿وما خلفهم﴾ أي: علمه محيط بما هم مطلعون عليه، وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه ﴿وإلى الله﴾ أي: وحده تعالى ﴿ترجع﴾ بغاية السهولة ﴿الأمور﴾ يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهراً لا خفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: تلبسوا بالإيمان ﴿اركعوا﴾ تصديقاً لإيمانكم ﴿واسجدوا﴾ أي: صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان.
تنبيه: إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون، وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى: ﴿واعبدوا﴾ أي: بأنواع العبادة ﴿ربكم﴾ أي: المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، أو قد يكون بلا نية، فقال: ﴿وافعلوا الخير﴾ أي: كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى؛ قال أبو حيان: بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة، ثم بعام وهو: واعبدوا ربكم، ثم بأعمّ وهو: وافعلوا الخير ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي: افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ: لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له.
تنبيه: اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله ﷺ «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه، وذهب قوم إلى أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري، وقول أبي حنيفة وأصحابه؛ لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع في ذلك، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل، بالسيف وغيره وكل جهاد
﴿عنهم العذاب﴾ أي: الذي أنزلناه بهم ﴿إذا هم ينكثون﴾ أي: فاجؤا الكشف بتجدد النكث بإخلاف بعد إخلاف.
﴿ونادى فرعون﴾ أي: زيادة على نكثه ﴿في قومه﴾ أي: الذين هم في غاية القيام معه وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد والقريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع فيرجعون.
ولما كان كأنه قيل: بم نادى أجاب بقوله: ﴿قال﴾ أي: خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوه من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ القلوب ﴿يا قوم﴾ مستعطفاً بإعلامهم أنهم لحمة واحدة ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذو قوة على ما يحاولنه مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله: ﴿أليس لي﴾ أي: وحدي ﴿ملك مصر﴾ أي: كله فلا اعتراض علي من بني إسرائيل ولا غيرهم ﴿وهذه﴾ أي: والحال أن هذه ﴿الأنهار﴾ أي: أنهار النيل قال البيضاوي: ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، وقال البقاعي: كأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ونحو ذلك من أموره فقال: ﴿تجري من تحتي﴾ أي: تحت قصري أو أمري أو بين يدي في جناني وزاد في التقرير بقوله: ﴿أفلا تبصرون﴾ أي: هذا الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه.
﴿أم أنا خير﴾ أي: مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء ﴿من هذا﴾ وكنى بإشارة القريب عن تحقيره ثم وصفه بما يبين مراده بقوله: ﴿الذي هو معين﴾ أي: ضعيف حقير ذليل لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوى يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً ﴿ولا يكاد يبين﴾ أي: لا يقرب من أن يعرب عن معنى من المعاني لما في لسانه من الحبسة، فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان ليستجلب القلوب وينعش الألباب فتكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله فقد كان موسى عليه السلام أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله تعالى الذي أرسله له وأمره إياه ولكن اللعين أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لاتباعه لأن موسى عليه السلام ما دعا بإزالة جميع حبسته بل بعقدة منها فإنه قال ﴿واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي﴾ (طه: ٢٧ ـ ٢٨)
تنبيه: في أم من قوله أم أنا خير أقوال؛ أحدها: أنها منقطعة فتقدر ببل التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي للإنكار، والثاني: أنها بمعنى بل فقط كقوله:
*بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى | وصورتها أم أنت في العين أملح* |
﴿فلولا﴾
وقال: إنها ثلاثون كلمة وفاقاً، وقوله تعالى: ﴿هي﴾ السابع والعشرون، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل: وفيها نحو الثلاثين قولاً وبضع وعشرون حديثاً وأفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية.
وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً:
أحدها: أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها، أو جميع رمضان على القول به، أو جميع العشر الأخير على القول به، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة.
ثانيها: أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته، ويقول: تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون. ثالثها: ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها.
ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره بقوله سبحانه: ﴿ليلة القدر﴾ أي: التي خصصناها بإنزالنا فيها ﴿خير من ألف شهر﴾ ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ذكر لرسول الله ﷺ رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله ﷺ لذلك وتمنى ذلك لأمّته، فقال: يا رب، جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال تعالى: ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة»، أي: فهي من خصائص هذه الأمة.
وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله ﷺ أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له: عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وهي أفضل ليالي السنة، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر، كما قيل: إن الإسراء كان في رمضان، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة، ولا يشكل ذلك بما قيل: إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها