يرتفع بالابتداء؛ لأن إن من عوامل الفعل، فلا تدخل على غيره. ﴿ذلك﴾ أي: الأمر بالإجارة للغرض المذكور ﴿بأنهم﴾ أي: بسبب أنهم ﴿قوم لا يعلمون﴾ أي: لا علم لهم لأنهم لا عهد لهم بنبوّة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم، وقوله سبحانه وتعالى:
﴿كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله﴾ استفهام معناه الجحد أي: لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ﴿إلا الذين عاهدتم﴾ أي: من المشركين ﴿عند المسجد الحرام﴾ يوم الحديبية وهم المستثنون قبل ﴿فما استقاموا لكم﴾ أي: أقاموا على العهد ولم ينقضوه ﴿فاستقيموا لهم﴾ أي: على الوفاء وهو كقوله تعالى: ﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم﴾ (التوبة، ٤)
غير أنه مطلق وهذا مقيد، وما تحتمل الشرطية والمصدرية. ﴿إنّ الله يحب المتقين﴾ أي: من اتقى يوفي بعده لمن عاهده، وقد استقام ﷺ على عهدهم حتى نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة. وقوله تعالى:
﴿كيف﴾ تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أي: كيف يكون لهم عهد ثابت ﴿وإن﴾ أي: والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة، فهم إن ﴿يظهروا عليكم﴾ أي: يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق ﴿لا يرقبوا﴾ أي: لا يراعوا ﴿فيكم﴾ أي: في أذاكم بكل جليل وحقير ﴿إلا﴾ أي: قرابة محققة قال حسان:

*لعمرك إن إلّك من قريش كإلِّ السقب من رأل النعام*
السقب: ولد الناقة، والرأل: ولد النعامة، والخطاب في لعمرك لأبي سفيان، أي: لا قرابة بينك وبين قريش كما لا قرابة بين ولد الناقة وولد النعامة. وقيل: إلا إلهاً، وقيل: جبريل ﴿ولا ذمة﴾ أي: عهداً بل يؤذوكم ما استطاعوا وقوله تعالى: ﴿يرضونكم بأفواههم﴾ أي: بكلامهم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد ﴿وتأبى قلوبهم﴾ أي: عن الوفاء به لمخالفة ما فيها من الأضغان ﴿وأكثرهم فاسقون﴾ أي: راسخو الأقدام في الفسق.
فإن قيل: الموصوفون بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. وأيضاً الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله: وأكثرهم فائدة؟ أجيب: بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه، فلا ينقض العهد، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه فينقضه، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد، وكان في المشركين من وفى بعهده، فلهذا قال: وأكثرهم أي: إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم. وقال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال: ﴿وأكثرهم فاسقون﴾ حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.
﴿اشتروا﴾ أي: استبدلوا ﴿بآيات الله﴾ أي: القرآن ﴿ثمناً قليلاً﴾ أي: عرضاً يسيراً من الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات مع مصاحبة الكفر، وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبيّ ﷺ فنقض العهد الذي بينهم بسبب تلك الأكلة ﴿فصدوا﴾ أي: فتسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا ﴿عن سبيله﴾ أي: منعوا الناس من الدخول في دينه ﴿إنهم ساء﴾ أي: بئس ﴿ما كانوا يعملون﴾ أي: عملهم
عند معاينة الموت بقوله تعالى: ﴿حتى﴾ وهي هنا كما قال الجلال المحلي ابتدائية أو متعلقة بيصفون أو بكاذبون كما قال الزمخشري، وقدّم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال:
﴿إذا جاء أحدهم الموت﴾ فكشف له الغطاء وظهر له الحق ولاحت له بوارق العذاب، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب ﴿قال﴾ متحسراً على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس من دأب البهائم ﴿رب ارجعون﴾ أي: ردوني إلى الدنيا دار العمل، ويجوز أن يكون الجمع له تعالى وللملائكة أو للتعظيم على عادة مخاطبات الأكابر سيما الملوك كقوله:
*ألا فارحموني يا إله محمد
وقوله:
*فإن شئت حرمت النساء سواكم
أو القصد تكرير الفعل للتأكيد؛ لأنه في معنى أرجعني كما قيل في قفا واطرقا فإنهما بمعنى قف قف واطرق اطرق، ولما كان في تلك الحالة مع وصوله إلى الغرغرة ليس على القطع من اليأس قال:
﴿لعلي أعمل﴾ أي: لأن كون على رجاء من أن اعمل ﴿صالحاً فيما تركت﴾ أي: ضيعت من الإيمان بالله وتوابعه فيدخل في الأعمال الأعمال البدنية والمالية وعنه ﷺ «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بلى قدوماً على الله، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت» قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله ولا عشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب، وقال ابن كثير: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت واستقال ربه، فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى، ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ولو رجع لم يعمل بطاعة الله عز وجل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، قال الله تعالى له ردعاً ورداً لكلامه: ﴿كلا﴾ أي: لا يكون شيء من ذلك وكأنه قيل: فما حكم ما قال؟ فقيل: ﴿إنها كلمة﴾ والمراد بالكلمة في اللغة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض رب ارجعون إلى آخره ﴿هو قائلها﴾ وقد عرف منه الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها، فلا يجاب إليها ولا تسمع منه وهو لا محالة لا يخليها، ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه، وتسلط الندم ﴿ومن ورائهم﴾ أي: أمامهم والضمير للجماعة ﴿برزخ﴾ أي: حاجز حائل بينهم وبين الرجعة، واختلف في معناه فقال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وقال قتادة: بقية الدنيا، وقال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث، وقيل: هو الموت، وقيل: هو القبر هم فيه ﴿إلى يوم يبعثون﴾ وهو يوم القيامة، وفي هذا إقناط كليّ من الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.
﴿فإذا نفخ في الصور﴾ أي: القرن، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض ﴿فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون﴾ ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ هذا فلان بن فلان، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له
الموتة الأولى قد ذاقوها، ثانيها: أنه متصل وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يصير بلطف الله كأنه في الجنة لاتصاله بأسبابها ومشاهدته إياها وما يعطاه من نعيمها فكأنه مات فيها، ثالثها: أن إلا بمعنى سوى أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا كما في قوله تعالى: ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف﴾ (النساء: ٢٢)
أي: سوى ما قد سلف، رابعها: أن إلا بمعنى بعد، أي: لا يذوقون فيها الموت بعد الموتة الأولى في الدنيا واختاره الطبري لكن نوزع بأن إلا بمعنى بعد لم يثبت وقد يجاب: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، خامسها: قال الزمخشري: أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله: ﴿إلا الموتة الأولى﴾ موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، سادسها: المراد بالمتقين أعم من الراسخين وغيرهم وإن ضمير فيها يرجع للآخرة، فالعاصي إذا أراد الله تعالى تعذيبه بالنار يذيقه فيها موتة أخرى كما جاء في الأحاديث الصحيحة فيكون على المجموع، سابعها: أن الموتة الأولى في الجنة المجازية فلا يكون ذلك بالمحال وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا.
قال بعض العلماء: الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن التقي فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياه فيها وقربه منه ونظره إليه وذكره له وعبادته إياه وشغله به وهو معه أينما كان، فإن قيل: أهل النار لا يذوقون الموت أبداً فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟ أجيب: بأن البشارة ما وقعت بدوام الحياة فقط بل مع حصول تلك الخيرات والسعادات فافترفا ﴿ووقاهم﴾ أي: المتقين ﴿عذاب الجحيم﴾ أي: التي تقدم أنها لكل كفار أثيم وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله تعالى من أراد منهم النار فيعذب كلاً منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله تعالى في الشفاعة فيهم، فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم من ماء الحياة، ثم يدخلهم الله تعالى الجنة.
روي عن أنس أن النبي ﷺ قال: «يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة فيقول أهل الجنة: من هؤلاء فيقال: هؤلاء الجهنميون». وروي أنه ﷺ قال: «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة»، فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة. وقوله تعالى:
﴿فضلاً﴾ مفعول لأجله أي: فعل ذلك بهم لأجل الفضل، وجعله أبو البقاء: منصوباً بمقدر أي: تفضلنا بذلك فضلاً أي: تفضلاً.
تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله تعالى فضلاً وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بفضل الله تعالى ﴿من ربك﴾ أي: المحسن إليك بكمال إحسانه إلى أتباعك إحساناً يليق بك، قال الرازي في اللوامع: أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال.
ولما عظمه الله تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه ﷺ زاد تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: الفضل العظيم الواسع ﴿هو﴾ أي: خاصة ﴿الفوز﴾ أي: الظفر بجميع المطالب ﴿العظيم﴾ لأنه خلاص عن المكاره ولم يدع جهة من الشرف إلا ملأها، وهذا يدل على أن
ويرفع من يشاء وإن ذل، وقريش هم ولد النضر بن كنانة ومن ولده النضر فهو قرشيّ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ. قال ﷺ «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنّ النبيّ ﷺ قال: «فضل الله قريشاً بسبع خلال أني منهم، وأنّ النبوّة فيهم، وأنّ الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم وأنّ الحجابة والسقاية فيهم، وأنّ الله أنزل فيهم سورة من القرآن» وسموا قريشاً من القرش وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش، أي: يكتسب، وهم كانوا تجاراً حرّاصاً على جمع المال، وقا أبو ريحانة: سأل معاوية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار يقال لها: القرش، ولا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى،. قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها، قال: نعم فأنشده شعر الجمحي:
*وقريش هي التي تسكن البح ر بها سميت قريش قريشاً*
*تأكل الغث والسمين فلا تت رك فيه لذي الجناحين ريشاً*
*هكذا في الكتاب حي قريش يأكلون البلاد أكلاً كميشا*
*ولهم آخر الزمان نبيّ يكثر القتل منهموا والخموشا*
وقيل: هو من تقرش الرجل إذا تنزه عن مدانس الأمور، أومن تقارشت الرماح في الحرب إذا دخل بعضها في بعض.
وقوله تعالى: ﴿إيلافهم﴾ بدل من الإيلاف الأول، وقرأ ابن عامر لإلاف بغير ياء بعد الهمزة، والباقون لإيلاف بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو إيلافهم بالياء بعد الهمزة. قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء، وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطاً، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منها خطاً، وهذا أدل دليل على أنّ القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرّد الخط. وقوله تعالى: ﴿رحلة الشتاء﴾ منصوب بإيلافهم مفعول به كما نصب يتيماً بإطعام، وهي التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون منهامتاجر الحبوب. ﴿والصيف﴾ التي يرحلونها إلى الشام في زمنه؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الثمار، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المعظم وبيت الله، والناس يتخطفون من حولهم ولا يجترىء أحد عليهم.
والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافاً إذا بلغته فأنا مؤلف، والأصل رحلتي الشتاء والصيف ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم. قال مالك: الشتاء نصف السنة والصيف نصفها.
وقال قوم: الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف، وقيل: شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي: الذي قاله مالك أصح لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً، وروى عكرمة عن ابن


الصفحة التالية
Icon