هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم واستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله ﷺ ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان، قال البراء: والذي لا إله إلا هو ما ولي رسول الله ﷺ دبره قط قد رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس أخذ بلجام الدابة وهو يقول: أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب فطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يولي ثم قال للعباس: «وكان صيتاً صح يا عباس» فنادى: «يا عباد الله يا أصحاب الشجرة» وهم أصحاب بيعة الرضوان المذكورون في قوله تعالى: ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾ (الفتح، ١٨)
يا أصحاب سورة البقرة قال الطيبي وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون﴾ (البقرة، ٢٨٥)
وقيل: الذين أنزلت عليهم سورة البقرة فرجعوا جماعة واحدة يقولون: لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا حين حمي الوطيس» أي: اشتدّ الحرب ثم أخذ رسول الله ﷺ كفاً من تراب فرماهم ثم قال: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا.
وروي أنه ﷺ نزل عن البغلة، ثم أخذ قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل بها وجوههم، ثم قال: «شاهت الوجوه». قالت سلمة بن الأكوع: فما خلق الله تعالى منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله تعالى. ﴿فلم تغن﴾ أي: الكثرة. ﴿عنكم شيأ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت﴾ أي: برحبها أي: بسعتها لا تجدون فيها مقراً تطمئن إليه نفوسكم من شدّة الرعب، ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. ﴿ثم وليتم مدبرين﴾ أي: الكفار ظهوركم مدبرين أي: منهزمين، والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.
﴿ثم أنزل الله سكينته﴾ أي: رحمته التي سكنوا إليها وأمنوا. ﴿على رسوله وعلى المؤمنين﴾ أي: على الذين انهزموا، فردّوا إلى النبيّ ﷺ لما ناداهم العباس بإذنه ﷺ وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله ﷺ حين وقع الحرب. ﴿وأنزل جنوداً﴾ أي: ملائكة ﴿لم تروها﴾ بأعينكم قال سعيد بن جبير: مد الله نبيه ﷺ بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: ستة عشرة ألفاً.
وروي أنّ رجلاً من بني النضير قال: للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة، وما قتلنا إلا بأيديهم، فأخبروا بذلك النبيّ ﷺ فقال: «تلك الملائكة» ﴿وعذب الذين كفروا﴾ بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب المال. ﴿وذلك جزاء الكافرين﴾ أي: ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.
روي أنه ﷺ لما قسم ما أفاء الله عليه يوم حنين في الناس، وفي المؤلفة قلوبهم، لم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم رسول الله ﷺ فقال: «يا معاشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالاً، فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي» كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أنّ قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله، لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا. أما ترضون أمن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبيّ إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار
أحبها وهي جميلة، قال: استمتع بها، وفي رواية غيره أمسكها إذاً» وقد أجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه، وعنه ﷺ أنه سئل عن ذلك فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح»، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضرب رجلاً وامرأة زنيا، وحرض أن يجمع بينهما فأبى الغلام.
ولما نفر سبحانه وتعالى عن نكاح من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة نهى عن الرمي به فقال تعالى:
﴿والذين يرمون﴾ أي: بالزنا ﴿المحصنات﴾ جمع محصنة وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة وهذا هو الحكم الثالث والذي يدل على أن المراد الرمي بالزنا أمور: أحدها: تقدم ذكر الزنا، ثانيها: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميها بضد ذلك، ثالثها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا، رابعها: قوله تعالى: ﴿ثم لم يأتوا﴾ أي: إلى الحكام ﴿بأربعة شهداء﴾ أي: ذكور ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير شرط إلا في الزنا وشرط القاذف الذي يحد بسبب القذف التكليف والاختيار والتزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف، وأن يكون غير أصل، وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فمن الصريح قوله لرجل أو امرأة زنيت أو زنيت، أو يا زاني أو يا زانية، ولو كسر التاء في خطاب الرجل وفتحها في خطاب المرأة أو زنيت في الجبل، ومن الكناية زنأت وزنأت في الجبل بالهمز، فإن نوى بذلك القذف كان قذفاً وإلا فلا، ومن التعريض يا ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، فهذا ليس بقذف وإن نواه.
فإن قيل: إذا كان ذلك القذف يشمل الذكر والأنثى فلم كانت الآية الكريمة في الإناث فقط؟ أجيب: بأن الكلام في حقهن أشنع وتنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها، وحدّ القاذف الحر ثمانون كما قال تعالى: ﴿فاجلدوهم﴾ أي: أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم ﴿ثمانين جلدة﴾ لكل واحد منهم لكل محصنة وحدّ القاذف الرقيق ولو مبعضاً أو مكاتباً أربعون جلدة على النصف من الحر لآية النساء فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حدّ الزنا وحدّ القذف، ويدل على أن المراد بالآية الأحرار قوله تعالى: ﴿ولا تقبلوا لهم﴾ أي: بعد قذفهم ﴿شهادة﴾ أي: شهادة كانت ﴿أبداً﴾ للحكم بافترائهم؛ لأن العبد لا تقبل شهادته، وإن لم يقذف. ولما كان التقدير أنهم قد افتروا عطف عليه تحذيراً من الإقدام عليه من غير تثبت ﴿وأولئك﴾ أي: الذين تقدم ذمهم بالقذف فنزلت رتبتهم جدّاً ﴿هم الفاسقون﴾ أي: المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف، وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر وفي ذلك دليل على أن القذف من الكبائر؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، واختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة، وحكم هذا الاستثناء المذكور في قوله:
﴿إلا الذين تابوا﴾ أي: رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره، وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا ﴿من بعد ذلك﴾ أي: الأمر الذي أوجب إبعادهم، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب وصلح حاله كما قال تعالى: ﴿وأصلحوا﴾ أي: بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف
خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. قال الأصفهاني: سئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه فنظمه من قال:

*نون الهوان من الهوى مسروقة فأسير كل هوى أسير هوان*
وقال آخر أيضاً:
*إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا*
﴿وأضله الله﴾ أي: بما له من الإحاطة ﴿على علم﴾ منه تعالى أي: عالماً بأنه من أهل الضلالة قبل خلقه ﴿وختم﴾ زيادة على الإضلال الخاص ﴿على سمعه﴾ فلا فهم له في الآيات المسموعة ﴿وقلبه﴾ أي: فهو لا يعي ما فى حقه وعيه ﴿وجعل على بصره غشاوة﴾ أي: ظلمة فلا يبصر الهوى ويقدر هنا المفعول الثاني لرأيت أي: أيهتدي، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الغين وسكون الشين، والباقون بكسر الغين وفتح الشين وألف بعد الشين وإذا صار بهذه المثابة ﴿فمن يهديه﴾ وأشار تعالى إلى قدرته عليه بقوله سبحانه وتعالى ﴿من بعد الله﴾ أي: إن أراد الله إضلاله الذي له الإحاطة بكل شيء أي: لا يهتدي ﴿أفلا تذكرون﴾ أي: ألم يكن لكم نوع تذكر فتتعظوا وفيه إدغام إحدى التاءين في الذال.
﴿وقالوا﴾ أي: في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه تعالى قادر على كل شيء ﴿ما هي﴾ أي: الحياة ﴿إلا حياتنا﴾ أي: أيها الناس ﴿الدنيا﴾ أي: هذه التي نحن فيها ﴿نموت ونحيا﴾، فإن قيل: الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكروا القيامة كان يجب أن يقولوا: نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟ أجيب: من وجوه أولها: أن المراد بقولهم نموت أي: حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقولهم ونحيا ما حصل بعد ذلك في الدنيا، ثانيها: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا، ثالثها: قال الزجاج: الواو للاجتماع والمعنى: يموت بعض ونحيا بعض، رابعها: قال الرازي: إنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ ثم قال بعده ﴿نموت ونحيا﴾ يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لا يطرأ عليه الموت بعد ذلك وهو في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد، وقال البيضاوي: يحتمل أنهم أرادوا به التناسخ أي: وهو أن روح الشخص إذا خرجت تنتقل إلى شخص آخر فيحيا بعد أن لم يكن فإنه عقيدة أكثر عبدة الأصنام ﴿وما يهلكنا﴾ أي: بعد الحياة ﴿إلا الدهر﴾ أي: مر الزمان الطويل بغلبته علينا وطول العمر واختلاف الليل والنهار من دهره إذا غلبه ﴿وما﴾ أي: قالوه والحال أنه ما ﴿لهم بذلك﴾ أي: المقول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه وأن الإهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه وأغرق في النفي فقال تعالى ﴿من علم﴾ أي: كثير ولا قليل ﴿إن﴾ أي: ما ﴿هم إلا يظنون﴾ أي: بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف وأنه لم يرجع أحد من الموتى هذا ظنهم الفاسد.
روى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «قال الله تعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما». وعنه قال: قال رسول الله ﷺ «لا يسب أحدكم
وهي ست آيات وستة وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره ﴿الرحيم﴾ الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره
وقوله تعالى: ﴿قل﴾ أي: يا أشرف الخلق ﴿يا أيها الكافرون﴾ إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف. قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في امرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظاً منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، قال: حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي فأنزل الله تعالى هذه السورة، فغدا رسول الله ﷺ إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا منه عند ذلك وأذوه وأصحابه، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم: ﴿يا أيها الذين كفروا﴾ (التحريم: ٧)
وههنا قال: ﴿قل يا أيها الكافرون؟﴾.
أجيب: بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة، وثم لا يكون رسولاً إليهم فأزال الواسطة فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي، وأمّا هنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولاً إليهم فقال تعالى: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾، أي: الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم
وقال الله تعالى له: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ لأنه ﷺ كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى: ﴿ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ (آل عمران: ١٥٩)
وقال تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم﴾ (آل عمران: ١٥٩)
وقال تعالى: ﴿بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ (آل عمران: ١٥٩)
ثم كان مأموراً بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون: كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي.
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم قال:
﴿لا أعبد﴾ أي: الآن ﴿ما تعبدون﴾ من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادات في سرّ ولا علن؛ لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.
﴿ولا أنتم عابدون﴾ أي: الآن ﴿ما أعبد﴾ وهو الله تعالى وحده.
﴿ولا أنا عابد﴾، أي: في الاستقبال ما عبدتم} من دون الله تعالى.
﴿ولا أنتم عابدون﴾، أي: في الاستقبال ﴿ما أعبد﴾ وهو الله وحده لا شريك له، وهذا خطاب لمن علم الله تعالى


الصفحة التالية
Icon