فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فنزل:
﴿يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم﴾ بإدغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل إذ أصله تثاقلتم ومعناه تباطأتم وملتم عن الجهاد ﴿إلى الأرض﴾ والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ، قال المحققون وإنما تثاقل الناس من وجوه: الأوّل: شدّة الزمان في الصيف والقحط، والثاني: بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به عادتهم في سائر الغزوات، والثالث: إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت، والرابع شدّة الحرّ في ذلك الوقت ثم قال لهم الله تعالى: ﴿أرضيتم بالحياة الدنيا﴾ وغرورها ﴿من الآخرة﴾ بدل الآخرة ونعيمها ﴿فما متاع الحياة الدنيا في﴾ جنب متاع ﴿الآخرة إلا قليل﴾ أي: حقير لأنّ متاع الدنيا يفقد عن قريب ونعيم الآخرة باق على الدوام فلهدا السبب كان متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلاً وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأنّ الله تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجباً لما عاتبهم الله على التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور في قوله تعالى:
﴿إلا﴾ أي: بإدغام نون إن الشرطية في لا في الموضعين ﴿تنفروا﴾ أي: تخرجوا مع النبيّ ﷺ للجهاد ﴿يعذبكم عذاباً أليماً﴾ أي: مؤلماً في الآخرة لأنّ العذاب الأليم لا يكون إلا فيها أو بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو، وقيل: باحتباس المطر عنهم قال ابن عباس: استنفر رسول الله ﷺ حياً من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر فكان ذلك عذابهم ﴿ويستبدل قوماً غيركم﴾ أي: يأت بهم بدلكم قال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: أبناء فارس، وقال أبو روق: هم أهل اليمن، قال الرازي: وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأنّ الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل لذلك المطلق على صورة معينة شاهدوها وقال في الكشاف بعد ذكره ذلك والظاهر مستغن عن التخصيص ﴿ولا تضروه شيئاً﴾ أي: لا يقدح تثاقلكم في نصردينه شيئاً فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل: الضمير راجع إلى الرسول ﷺ أي: ولا تضروره لأنّ الله تعالى وعده أن ينصره ووعده كائن لا محالة ﴿وا على كل شيء قدير﴾ أي: فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد كما قال تعالى: ﴿إلا تنصروه﴾ أي: محمداً ﷺ أيها المؤمنون ﴿فقد نصره الله﴾ فإنه المتكفل بنصرة رسوله ﷺ في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿أخرجه الذين كفروا﴾ من مكة حين مكروا به حيث تشاوروافي قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه ﴿ثاني اثنين﴾ أي: أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى: ﴿إذ﴾ بدل من إذ قبله ﴿هما في الغار﴾ أي: غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث
ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى: ﴿إذ﴾ بدل ثان ﴿يقول﴾﴿لصاحبه﴾ أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين
عليه الوحي وهو معها في لحاف، ومنها أن براءتها نزلت من السماء، ومنها أنها ابنة خليفة رسول الله ﷺ وصديقه، وخلقت طيبة، ووعدت بمغفرة ورزق كريم، وكان مسروق رحمه الله تعالى إذا روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ﷺ المبرّأة من السماء.
الحكم السادس: ما ذكره بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم﴾ أي: التي تسكنونها، فإن المؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذن، وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها، وفي قوله تعالى: ﴿حتى تستأنسوا﴾ وجهان: أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش؛ لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له فقد استأنس، والمعنى حتى يؤذن لكم كقوله تعالى: ﴿لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم﴾ (الأحزاب، ٥٣)، وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن، والثاني: أن يكون من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أرَ أحداً أي: تعرفت واستعلمت، وقال الخليل بن أحمد: الاستئناس: الاستبصار، من قولهم: آنست ناراً؛ أي: أبصرت، وقيل: هو أن يتكلم بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح يؤذن أهل البيت، وعن أبي أيوب الأنصاري قال: يا رسول الله: ما الاستئناس؟ قال: «أن يتكلم الرجل» ﴿وتسلموا على أهلها﴾ كأن يقول الواحد: السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن له دخل، وإلا رجع قال قتادة: المرة الأولى للتسميع، والثانية: ليتهيأ، والثالثة: إن شاء أذن، وإن شاء رد، وهذا من محاسن الآداب، فإن أول مرة ربما منعهم بعض الأشتغال من الإذن، وفي الثانية ربما كان هناك مانع يقتضي المنع، فإن لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع، ولهذا كان الأولى في الاستئذان ثلاثاً أن لا تكون متصلة، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما.
ولا بد من إذن صريح إذا كان الداخل أجنبياً أو قريباً غير محرم سواء كان الباب مغلقاً أم لا، وإن كان محرماً فإن كان ساكناً مع صاحبه فيه لم يلزمه الاستئذان، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكناً فإن كان الباب مغلقاً لم يدخل إلا بإذن، وإن كان مفتوحاً فوجهان، والأوجه الاستئذان، وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً، ثم رجع وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الاستئذان ثلاثاً»، و «استأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال: ألج، فقال رسول الله ﷺ لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السلام عليكم أدخل، فسمع الرجل فقال: أدخل».
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب صاحب البيت مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عز وجل عن ذلك، وعلم
خلق وخلقان، وقيل: الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه، أي: تنشق وقيل: هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله تعالى. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى، لأن الإعادة من المشارّ تربية.
ولما كانت الأشياء قسمين: عالم الخلق وعالم الأمر، وكان عالم الأمر خيراً كله فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خصه بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها:
﴿من شر ما خلق﴾ فخص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول ما وغيره من سائر الحيوانات كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم، وتارة طبيعياً كإحراق النار، وإهلاك السموم.
وقيل: المراد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقاً شراً منه، ولأنّ السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل: من شر كل ذي شر.
وقوله تعالى: ﴿ومن شر غاسق إذا وقب﴾ فيه أوجه: أحدها: ما روي عن عائشة قالت: «إن رسول الله ﷺ نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف وأسود وذهب ضوءه، أو إذا دخل في المحاق وهو آخر الشهر، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة.
ثانيها: ما روي عن ابن عباس: أنّ الغاسق الليل إذا وقب، أي: أقبل بظلمته من المشرق، وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار. والغسق: البرد، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل لأنّ فيه الآفات ويقل: الغوث، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ، وفيه يتم السحر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.
ثالثها: إنه الثريا إذا سقطت وغابت، ويقال: أنّ الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها.
رابعها: أنه الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه والوقب الثقب، ومنه: وقبت الثريد.
ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك عقب ذلك بقوله تعالى:
﴿ومن شرّ النفاثات في العقد﴾، أي: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين عليها، والنفث: النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة: النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبيّ ﷺ فإن قيل: ما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ أجيب: بثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهنّ في ذلك. ثانيها: أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهنّ. ثالثها: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى:
﴿إنّ كيدكنّ عظيم﴾ (يوسف: ٢٨)
تشبيهاً لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك.
تنبيه: اختلف في النفث في الرقي، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين». وروى محمد بن حاطب: «أنّ يده احترقت فأتى النبيّ ﷺ فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه». وروى «أنّ قوماً لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه


الصفحة التالية
Icon