لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا ﴿لا تحزن﴾ والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله ﷺ فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ ﷺ «ما لك» فقال: بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جُحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله ﷺ فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ﷺ فقال له ﷺ «لا تحزن» ﴿إن الله معنا﴾ فقال له أبو بكر: وإنّ الله لمعنا فقال الرسول ﷺ «نعم» فجعل يمسح الدموع عن خدّه.
وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله ﷺ وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسلام: «ما طنك باثنين الله ثالثهما».
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال ﷺ «اللهمّ أعم أبصارهم» فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحداً ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.
تنبيه: دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله ﷺ جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله ﷺ أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله ﷺ «لا تحزن إنّ الله معنا» ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك ﷺ بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفاً ومنها أن قوله: «لا تحزن» نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله ﷺ وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض» قال الحسن بن الفضل: من قال إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله ﷺ فهو كافر لإنكار نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: ﴿فأنزل الله سكينته﴾ أي: طمأنينته ﴿عليه﴾ هل هو للنبيّ ﷺ أو لأبي بكر رضي الله عنه؟ رجح الثاني لوجوه: الأوّل: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدّمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال: ﴿إذ يقول لصاحبه﴾ والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه. والثاني: أنّ الحزن والخوف كانا حاصلين لأبي بكر لا للرسول ﷺ فإنه كان آمناً
ما هو الأحسن الأجمل، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به وباب الاستئذان من ذلك.
قال الزمخشري: بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن يسمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله ﷺ ولكن أين الأذن الواعية. ﴿ذلكم خير لكم﴾ أي: من تحية الجاهلية، ومن أن تدخلوا من غير استئذان. «روي أن رجلاً قال للنبي ﷺ أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن»، وقوله تعالى: ﴿لعلكم تذكرون﴾ متعلق بمحذوف أي: أنزل عليكم، وقيل: بين لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
﴿فإن لم تجدوا فيها﴾ أي: البيوت ﴿أحداً﴾ يأذن لكم في دخولها ﴿فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم﴾ أي: حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول فيها ليس الاطلاع على العورات فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي تطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ﴿وإن قيل لكم ارجعوا﴾ أي: بعد الاستئذان ﴿فارجعوا﴾ أي: إذا كان في البيت أحد، وقال لكم: ارجعوا فارجعوا ﴿هو﴾ أي: الرجوع ﴿أزكى﴾ أي: أطهر وأصلح ﴿لكم﴾ من الوقوف على الأبواب منتظرين؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة مرتاضين للآداب الحسنة وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله تعالى: ما قرعت باباً على عالم قط، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى: ﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون﴾، (الحجرات، ٤)
وعن قتادة رحمه الله تعالى: إذا لم يؤذن له لا يقعد وراء الباب فإن للناس حاجات، وإن حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج، ولا يستأذن فيخرج الرجل فيقول: يا ابن عم رسول الله ﷺ لو أخبرتني فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، فإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً لما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ «من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم يفقؤوا عينه» وفي رواية للنسائي قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك جناح»، ولو عرض أمر في دار من حريق أو هدم أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره جاز الدخول بغير إذن ﴿والله﴾ أي: الذي لا يخفى عليه شيء ﴿بما تعملون﴾ من الدخول بإذن وبغير إذن ﴿عليم﴾ فيجازيكم عليه.
لما نزلت آية الاستئذان قالوا: يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها إنسان فأنزل الله تعالى:
﴿ليس عليكم جناح﴾ أي: إثم ﴿أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة﴾ أي:
وسلم فقالوا: هل فيكم من راق؟ قالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ، فأخذوه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال: وما يدريك أنها رقية خذوا واضربوا لي معكم بسهم». وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وقيل: إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان فلا يضر، وليس بمذموم ولا مكروه بل هو مندوب إليه.
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد، أو غيره قال تعالى:
﴿ومن شرّ حاسد﴾، أي: ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات، ثم قيد ذلك بقوله تعالى: ﴿إذا حسد﴾، أي: إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.
وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وفي إشعار الآية إدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأنّ خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً. فإن قيل: لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ أجيب: بأنّ النفاثات عرفت لأنه كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر.
وربّ حسد محمود وهو الحسد في الخيرات، ومنه قوله ﷺ «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد. وقال آخر: إن العلا حسن في مثلها الحسد.
فائدة: قال بعض الحكماء: الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه: أولها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة. ثالثها: إنه ضاد فعل الله تعالى إن فضل ببره من شاء، وهو يبخل بفضل الله تعالى. رابعها: أنه خذل أولياء الله تعالى، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. خامسها: أنه أعان عدوّ الله إبليس، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة، ولا ينال في الدنيا إلا جزعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً، ولا ينال من الله تعالى إلا بعداً ومقتاً.
وروي عنه ﷺ أنه قال: «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين». وقيل: المراد بالحاسد في الآية اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي ﷺ فإن قيل: قوله تعالى: ﴿من شر ما خلق﴾ تعميم في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ أجيب: بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمرهم، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به، وقالوا: شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه ﷺ قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، ألا والبغضاء هي الحالقة». فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه إنه كريم جواد.
وروى مسلم أنه ﷺ قال: «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما». وروى ابن ماجه أنه ﷺ قال: «وإنك إن تقرأ سورتين