اختلفت عبارات المفسرين فيها فقال ابن عباس: نشاطاً وغير نشاط، وقال الحسن: شباناً وشيوخاً، وقال عطية العوفي: ركباناً ومشاة، وقال أبو صالح: فقراء وأغنياء، وقال الحكم بن عيينة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال حرة الهمداني: أصحاء وأصحاب مرض، وعن صفوان بن عمرو كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إنه من يحبه الله يبتليه، وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب مرض فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله ﷺ أعليّ أن أنفر قال: «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه ﷺ فنزل قوله تعالى: ﴿ليس على الأعمى حرج﴾ (النو، ٦١)
أي: فهي منسوخة بذلك وقال ابن عباس: نسخت بقوله تعالى: ﴿ليس على الضعفاء ولا على المرضى﴾ (التوبة، ٩١)
الآية، وقال السدي: لما نزلت اشتدّ شأنها على المسلمين فنسخها الله تعالى وأنزل ﴿ليس على الضعفاء ولا على المرضى﴾ وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله تعالى: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ (التوبة، ١٢٢)
وقوله تعالى: ﴿وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾ أمر إيجاب للجهاد أي: ما أمكن لكم بهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال والحاجة.
﴿ذلكم﴾ أي: هذا الأمر العظيم ﴿خير لكم﴾ أي: خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل، أي: عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال ﷺ لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال: «هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر» ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى: ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي: ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق.
ونزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: ﴿لو كان﴾ ما تدعوهم إليه ﴿عرضاً﴾ أي: متاعاً من الدينا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ﴿قريباً﴾ أي: سهل المأخذ وقوله تعالى: ﴿وسفراً قاصداً﴾ أي: وسطاً فحذف اسم كان وهو ما قدرته، قال الزجاج: لدلالة ما تقدم عليه وإنما سمي السفر قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له: مقتصد قال تعالى: ﴿فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد﴾ (فاطر، ٣٢)
لأن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد وقوله تعالى: ﴿قاصداً﴾ أي: ذا قصد كقولهم: لابن وتامر ﴿لاتبعوك﴾ أي: وافقوك طلباً للغنيمة ﴿ولكن بعدت عليهم الشقة﴾ أي: المسافة التي تقطع بمشقة ﴿وسيحلفون﴾ أي: المتخلفون ﴿با﴾ إذا رجعت من تبوك معتذرين ﴿لو استطعنا﴾ أي: لو كان لنا استطاعة بالبدن أو العدة ﴿لخرجنا﴾ أي: في هذه الغزاة ﴿معكم يهلكون أنفسهم﴾ أي: بسبب هذه الأيمان الكاذبة كما قال تعالى: ﴿وا يعلم إنهم لكاذبون﴾ في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
﴿عفى الله عنك لم أذنت لهم﴾ أي: عفا الله تعالى عنك يا محمد ما كان منك في ذلك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك، واختلفوا هل في ذلك معاتبة للنبي ﷺ أم لا؟ فقال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه
فكن كالرجال الأجانب، لكن يجوز أن ترى الكافرة منها ما يبدو عند المهنة، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمامات مع المسلمات، وقيل: النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف.
تنبيه: العورة على أربعة أقسام؛ عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وعورة الرجل مع المرأة، أما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه ما عدا ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، وأما المرأة مع الرجل أو الرجل مع المرأة، فلا ينظر أحدهما من الآخر شيئاً، وقيل: يجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجهها وكفيها إذا أمن الفتنة ولم تكن شهوة، وقيل: يجوز لها أن تنظر منه ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز لمن أراد أن يخطب حرة أن ينظر وجهها وكفيها، وهي تنظر منه إذا أرادت أن تتزوج به ما عدا ما بين السرة والركبة، وإن أراد أن يتزوج بأمة جاز أن ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة، ويحرم أن ينظر بشهوة، ويحرم النظر بشهوة لكل منظور إليه إلا لمن أرد أن يتزوج بها وإلا حليلته ويباح النظر من الأجنبي لمعاملة وشهادة حتى يجوز النظر إلى الفرج للشهادة على الزنا والولادة، وإلى الثدي للشهادة على الرضاع وتعليم ومداواة بقدر الحاجة.
وكل ما حرم نظره متصلاً حرم نظره منفصلاً كشعر عانة من رجل أو قلامة ظفر من أجنبية، ويحرم اضطجاع رجلين أو امرأتين في ثوب واحد إذا كانا عاريين، وإن كان كل منهما في جانب من الفراش للخبر المتقدم، ويجب التفريق بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته في المضجع إذا كانا عاريين، وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لخبر: «ما من مسلمين يلتقيان ويتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا».
وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص، والمعانقة والتقبيل في الرأس للنهي عن ذلك إلا لقادم من سفر أو تباعد عهد، ويسن تقبيل الطفل ولو لغير أبويه شفقة، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، ويسن تقبيل يد الحي لصلاح أو علم أو زهد أو نحو ذلك، ويكره لغني أو وجاهة أو نحو ذلك، وقوله تعالى: ﴿أو ما ملكت أيمانهنّ﴾ يعم الإماء والعبيد، فيحل نظر العبد العفيف غير المبعض والمشترك والمكاتب إلى سيدته العفيفة لما روى أبو داود: أنه ﷺ أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رآها النبي ﷺ وما تلقى قال ﷺ «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك».
وعن عائشة أنها قالت لعبدها ذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر، وأما الفاسق والمبعض والمشترك والمكاتب فكالأجنبي بل قيل: إن المراد بالآية الإماء وعبداً وأمة كالأجنبي وبه قال ابن المسيب آخراً، وقال: لا تغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء ﴿أو التابعين﴾ أي: الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ﴿غير أولي الإربة﴾ أي: أصحاب الحاجة إلى النساء ﴿من الرجال﴾ أي: ليس لهم همة إلى ذلك ولا حاجة لهم في النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن، وقيل: هم شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، وقيل: هم الممسوحون سواء كان حراً أم لا وهو ذاهب الذكر والأنثيين، أما ذاهب الذكر
للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وأنسي كما قال تعالى: ﴿شياطين الإنس والجنّ﴾ (الأنعام: ١١٢)
ويجوز أن يكون بدلاً من الذي يوسوس، أي: الموسوس من الجن والإنس، وأن يكون حالاً من الضمير في يوسوس، أي: حال كونه من هذين الجنسين. وقيل: غير ذلك. قال الحسن: هما شيطانان لنا أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس. وعن أبي ذر قال لرجل هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس، فقال: أومن الإنس شياطين؟ قال: نعم لقوله تعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ﴾ الآية.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن سموا ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى: ﴿وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ﴾ (الجن: ٦)
وكما سموا نفراً في قوله تعالى: ﴿قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن﴾ (الجن: ١)
وكما سموا قوماً نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال: وهو يحدّث جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فعلى هذا يكون والناس عطفاً على الجنة ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني كما يقال: أنس وأنسي والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون في صدور الناس عاماً في الجميع.
و ﴿من الجنة والناس﴾ بياناً لما يوسوس في صدروهم. وقيل: معنى ﴿من شر الوسواس﴾ الوسوسة التي تكون ﴿من الجنة والناس﴾ وهو حديث النفس.
قال ﷺ «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به». وعن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله ﷺ ألم تر آيات نزلت الليلة لم ير مثلهنّ قط ﴿أعوذ برب الفلق﴾ و ﴿أعوذ برب الناس﴾ a. وعنه أيضاً أنّ رسول الله ﷺ قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذ؟ قلت: بلى، قال: ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ و ﴿قل أعوذ برب الناس﴾.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهم وقرأ ﴿قل هو الله أحد﴾ و ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ و ﴿قل أعوذ برب الناس﴾ ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجه وما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرات»
. وعنها أيضاً «أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأهما عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها». وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار». وعن ابن عباس قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي: الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل».
وعن أبي هريرة أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ما أذن الله لأحد ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به».
لطيفة: نختم بها كما ختم بها الفخر الرازي رحمه الله تعالى تفسيره، وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأمّا في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرب والملك والإله،


الصفحة التالية
Icon