تبوك، واختلف في عددهم فعن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة عشر وروي عنه أنهم كانوا خمسة وقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانية، وقيل: كانوا ثلاثة ندموا لما بلغهم ما نزل بالمتخلفين وتابوا وقالوا: نكون في الظلال ومع النساء ورسول الله ﷺ وأصحابه في الجهاد واللأواء فلما رجع رسول الله ﷺ من سفره وقرب من المدينة قالوا: والله لنوثقنّ أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقها ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع رسول الله ﷺ دخل المسجد على عادته في رجوعه من سفره فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا الا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم وترضى عنهم فقال: «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية» فأرسل رسول الله ﷺ إليهم وأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها خذها فتصدّق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فأنزل الله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم﴾ من الذنوب أو حب المال المؤدّي إلى مثله وتجري لهم مجرى الكفارة هذا قول الحسن كان يقول: ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي كفارة الذنب الذي صدر ويدل عليه أنه ﷺ أخذ ثلث أموالهم وتصدّق بها وأبقى لهم الثلثين ولم يأخذ الجميع لأنّ الله تعالى
قال: ﴿خذ من أموالهم﴾ والصدقة الواجبة لا يؤخذ فيها ثلث المال ﴿وتزكيهم بها﴾ أي: وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين ﴿وصل عليهم﴾ أي: واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم والسنة أن يدعو آخذ الصدقة لصاحب الصدقة إذا أخذها.
وعن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت. ﴿إن صلاتك سكن لهم﴾ أي: تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم لأنّ روحه ﷺ كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا ﷺ لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوّة روحه الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية فحصل لهم بذلك غاية الطمأنينة. وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ: صلاتك بغير واو بعد اللام ونصب التاء على التوحيد، والباقون بالواو وكسر التاء على الجمع لتعدّد المدعوّ لهم.
قيل: إنّ هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكاة وقالوا في الزكاة: إنها طهرة ﴿وا سميع﴾ لأقوالهم واعترافهم ودعائك لهم ﴿عليم﴾ بندامتهم ونياتهم.
ولما حكى سبحانه عن القوم الذين تقدّم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدّقوا وهناك لم يذكر إلا قوله: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم﴾ وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر بعد ذلك أنه يقبل التوبة وأنه سبحانه يأخذ الصدقات ترغيباً لمن لم يتب في التوبة وترغيباً لكل العصاة في الطاعة بقوله تعالى:
﴿ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ﴾ أي: يقبل ﴿الصدقات﴾ والضمير إما للمتوب
الذي الرفع نعتاً للذي الأول أو بياناً أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوف والنصب على المدح، وما بعده يدل على أنه من تمام الصلة، فليس أجنبياً فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له ﴿ولم يتخذ ولداً﴾ أي: هو الفرد أبداً ولا يصح أن يكون غيره تعالى معبوداً ووارثاً للملك عنه، وهذا رد على النصارى، ﴿ولم يكن له شريك في الملك﴾ أي: هو المنفرد بالألوهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل من سواه تعالى ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه، وفيه ردّ على الوثنية القائلين بعبادةالنجوم والأوثان، ولما نفى تعالى الشريك، فكأن قائلاً يقول: هاهنا أقوام يعترفون بنفي الشريك والشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون: يخلق أفعال أنفسهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿وخلق كل شيء﴾ أي: من شأنه أن يخلق ومنه أفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإحداث أي: أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية ﴿فقدره تقديراً﴾ أي: هيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة، وسمي إحداث الله خلقاً؛ لأنه لا يحدث شيئاً لحكمة إلا على وجه التقدير من غير تفاوت.
فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره تقديراً في إيجاده، ولم يوجده متفاوتاً، ولو حمل خلق كل شيء على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقدر كل شيء فقدره، فلم يصر له كبير فائدة، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى:
﴿واتخذوا من دونه﴾ أي: الله تعالى أي: غيره ﴿آلهة﴾ على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعود على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين.
ثانيها: أنه يعود على من ادعى لله شريكاً وولداً لدلالة قوله تعالى: ﴿ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك﴾.
ثالثها: أنه يعود على المنذرين لدلالة نذيراً عليهم، ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب من يعبد غيره من وجوه منها: أنها ليست خالقة للأشياء بقوله تعالى: ﴿لا يخلقون شيئاً﴾ والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد، ومنها: أنها مخلوقة بقوله تعالى: ﴿وهم يخلقون﴾ والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنياً، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة، وغيرهم كالكواكب والأصنام التي ينحتونها ويصورونها، ومنها: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً بقوله تعالى: ﴿ولا يملكون﴾ أي: لا يستطيعون ﴿لأنفسهم ضراً﴾ أي: دفعه ﴿ولا نفعاً﴾ أي: جلبه ومن كان كذلك، فليس بإله، ومنها: أنها لا تقدر على موت ولا حياة ولا نشور بقوله تعالى: ﴿ولا يملكون موتاً ولا حياة﴾ أي: إماتة لأحد وإحياء لأحد ﴿ولا نشوراً﴾ أي: بعثاً للأموات، فيجب أن يكون المعبود قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين، والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية.
تنبيه: احتج أهل السنة بقوله تعالى: ﴿لايخلقون شيئاً﴾ على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأنه تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد،


الصفحة التالية
Icon