السكن ووحشياً فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا جميعاً سريعاً حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: انظروني حتى أخرج لكم بنار من أهلي فدخل إلى أهله وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فهدموه وأحرقوه وتفرّق عنه أهله وأمر رسول الله ﷺ أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً فريداً غريباً وقيل: كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى أو بمال غير طيب فهو ملحق بمسجد الضرار.
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه وقوله تعالى: ﴿لمسجد﴾ اللام فيه للابتداء وقيل: لام القسم تقديره والله لمسجد ﴿أسس﴾ أي: وضع أساسه وقواعده ﴿على التقوى﴾ أي: تقوى الله تعالى ﴿من أوّل يوم﴾ أي: من أوّل أيام وجوده لأن من تعم الزمان والمكان أي: فأحاطت به التقوى لأنها إذا أحاطت بأوّله أحاطت بآخره ﴿أحق﴾ أي: أولى ﴿أن﴾ أي: بأن ﴿تقوم﴾ أي: تصلي ﴿فيه﴾، واختلف في هذا المسجد الذي أسس على التقوى فقيل: هو مسجد المدينة قاله زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد رضي الله عنه: دخلت على رسول الله ﷺ في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أي المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة» أي: ثوابت، وقيل: هو مسجد قباء قاله سعيد بن جبير وقتادة أسسه رسول الله ﷺ وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهو يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿فيه رجال يحبون أن يتطهروا﴾ أي: من المعاصي والخصال المذمومة طلباً لمرضاة الله تعالى عليهم ﴿وا يحب المطهرين﴾ أي: يثيبهم ويرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحب حبيبه.
روي أنها لما نزلت مشى رسول الله ﷺ ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال: «أمؤمنون أنتم؟» فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أترضون بالقضاء؟» فقالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: «مؤمنون ورب الكعبة» فجلس ثم قال: «يا معشر الأنصار إنّ الله عز وجل قد أثنى عليكم فماذا الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟» فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا رسول الله ﷺ ﴿رجال يحبون أن يتطهروا﴾.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن ساعدة إنه ﷺ أتاهم في مسجد قباء فقال: «إنّ الله تعالى قد أحسن إليكم الثناء في الطهر وفي قصة مسجدكم فما الطهور الذي تطهرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا كان لنا جيران من اليهود فكانوا
لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجة في استمرارها إلى سقي ﴿ويجعل لك قصوراً﴾ أيضاً وهي جمع قصر، وهو المسكن الرفيع، قال المفسرون: القصور هي البيوت المشيدة، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً، ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر، فيكون مسكناً ومنتزهاً، ويجوز أن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة، وقال مجاهد: إن شاء جعل جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض عليه سبحانه وتعالى ما شاء في ذلك في الدنيا فأباه.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، أو قال: ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ «لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهباً جاءني ملك فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً، قالت: وكان النبي ﷺ بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول: آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد».
وعن ابن عباس قال: «بينما رسول الله ﷺ جالس وجبريل عليه السلام معه، فقال جبريل عليه السلام: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ﷺ وقال: إن الله يخيرك أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطه أحداً قبلك، ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً، فقال ﷺ «بل يجمعها لي في الآخرة» فنزل ﴿تبارك الذي إن شاء﴾ الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة برفع اللام من يجعل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مستأنف، والثاني: أنه معطوف على جواب الشرط؛ لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله:
*وإن أتاه خليل يوم مسألة
... يقول لا غائب مالي ولا حرم
والباقون بالجزم، ويجوز في ﴿يجعل لك﴾ إذا أدغمت أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع، ثم أضرب سبحانه وتعالى عن كلامهم في حق رسوله محمد ﷺ بقوله تعالى:
﴿بل﴾ أي: لا يظنوا أنهم كذبوا بما جئت به؛ لأنهم لا يعتقدون فيك كذباً بل ﴿كذبوا بالساعة﴾ أي: القيامة، فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوي، وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً، فلا يتكلفون النظر والفكر، ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل ﴿وأعتدنا﴾ أي: والحال أنا اعتدنا أي: هيأنا بما لنا من العظمة ﴿لمن كذب﴾ من هؤلاء وغيرهم ﴿بالساعة سعيراً﴾ أي: ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء وأتباعهم، وعن الحسن: أن السعير اسم من أسماء جهنم.
تنبيه: احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: ﴿أعدت للمتقين﴾ (آل عمران، ١٣٣)
وعلى أن النار وهي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية:
﴿إذا رأتهم من مكان بعيد﴾ وهو أقصى ما تمكن رؤيتها منه، وقال الكلبي والسدي: من مسيرة عام، وقيل: من مسيرة مائة سنة،