يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي حديث رواه البزار فقالوا: نتبع الحجارة بالماء فقال: «هو ذاك فعليكموه»، وقيل: كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء إثر البول، وعن الحسن هو التطهر من الذنوب بالتوبة، وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم.
﴿أفمن أسس بنيانه﴾ أي: بنيان دينه ﴿على تقوى من الله ورضوان﴾ أي: على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ﴿خير أم من أسس بنيانه على شفا﴾ أي: طرف ﴿جرف﴾ أي: جانب ﴿هار﴾ أي: على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار أي: مشرف على السقوط ﴿فانهار به﴾ أي: سقط مع بانيه ﴿في نار جهنم﴾ خير وهذا تمثيل للبناء على ضدّ التقوى بما يؤول إليه والاستفهام للتقرير أي: الأوّل خير وهو مثال مسجد قباء، والثاني مثال مسجد الضرار قال الرازي: ولا نرى في العالم مثالاً أحسن مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال وحاصل الكلام إنّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله تعالى ورضوانه والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأوّل شريفاً واجب الإبقاء وكان الثاني خسيساً واجب الهدم.
قيل: حفرت بقعة في مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منها، وقرأ نافع وابن عامر: أفمن أسس بضم الهمزة وكسر السين الأولى مع التشديد وضم النون قبل الهاء، والباقون بفتح الهمزة والسين مع التشديد أيضاً ونصب النون قبل الهاء، وقرأ شعبة: رضوان بضم الراء، والباقون بالكسر. ورسمت أم هنا مقطوعة من من والكلام على أسس بنيانه كالكلام على التي قبلها، وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة جرف بسكون الراء والباقون بالرفع، وأما شفا فلا تمال بخلاف هار فإن أبا عمرو وشعبة والكسائيّ يقرؤونه بالإمالة المحضة، وابن ذكوان بالفتح والإمالة، وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح ﴿وا لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي: إلى ما فيه صلاح ونجاة.
﴿لا يزال بنيانهم الذي بنوا﴾ أي: بناؤهم الذي بنوه وهو مصدر كالغفران والمراد هنا المبنى وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور يقال: ضرب الأمير ونسج زيد والمراد مضروبه ومنسوجه وليس بجمع خلافاً للواحدي في تجويزه أن يكون جمع بنيانه لأنه وصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله: ﴿ريبة﴾ أي: شكاً ﴿في قلوبهم﴾ والمعنى: إنّ بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة وإنما جعل سبباً للريبة لأنّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله ﷺ بتخريبه عظم خوفهم في كل الأوقات وصاروا مرتابين في أنهم هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم، وقال الكلبي: صار حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه، وقال السدي: لا يزال هدم بنائهم ريبة أي: حرارة وغيظاً في قلوبهم ﴿إلا أن تقطع قلوبهم﴾ قطعاً إمّا بالسيف وإمّا بالموت بحيث لا يبقى لهم قابلية الإدراك وقيل: التقطع بالتوبة ندماً وأسفاً ﴿وا عليم﴾ بأحوالهم وأحوال عباده ﴿حكيم﴾ في الأحوال التي يحكم بها عليهم وعلى غيرهم.
ولما تقدّم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى: ﴿ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله﴾ الآية، ثم الحزم بالجهاد بالنفس والمال في قوله تعالى: ﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ الآية ذكر فضيلة الجهاد وحقيقته بقوله تعالى:
﴿إنّ الله اشترى﴾ أي: بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة {من
روي أنه ﷺ قال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قالوا: وهل لها من عينين؟ قال: نعم، ألم تسمع قوله تعالى: إذا رأتهم من مكان بعيد».
وقال البيضاوي: تبعاً للزمخشري: إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: لا «تراءي ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز. انتهى، وهذا تأويل للمعتزلة بناء منهم على أن الرؤية مشروطة بالحياة بخلاف الأشاعرة فإنهم يجوزون رؤيتها حقيقة كتغيظها وزفيرها في قوله تعالى: ﴿سمعوا لها تغيظاً﴾ أي: غلياناً كالغضبان إذ غلى صدره من الغضب ﴿وزفيراً﴾ أي: صوتاً شديداً إذ لا امتناع من أنها تكون رائية مغتاظة زافرة، وأشار البيضاوي إلى ذلك بعد ما ذكر بقوله: هذا. وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبينة أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر، وقال الجلال المحلي: وسماع التغيظ رؤيته وعلمه انتهى. قال عبد الله بن عمر: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه، وقيل: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً عل الكفار للانتقام منهم، فنسب إليها على حذف مضاف.
﴿وإذا ألقوا﴾ أي: طرحوا طرح إهانة ﴿منها﴾ أي: النار ﴿مكاناً﴾ ثم وصفه تعالى بقوله تعالى: ﴿ضيقاً﴾ زيادة في فظاعتها، قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح ﴿مقرنين﴾ أي: مصفدين زيادة قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم من الأغلال، وقد قيل: الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله تعالى الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله تعالى على أهل النار أنواع الضيق والإرهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصاً كما مر عن ابن عباس: أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر، وسئل النبي ﷺ عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم ويقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة في أرجلهم».Y
تنبيه: ﴿مكاناً﴾ منصوب على الظرف، ومنها في محل نصب على الحال من مكاناً؛ لأنه في الأصل صفة له، ومقرنين حال من مفعول ﴿ألقوا﴾، وقرأ ابن كثير ضيقاً بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشددة ﴿دعوا هنالك﴾ أي: في ذلك المكان البغيض البعيد عن الرفق ﴿ثبوراً﴾ قال ابن عباس: ويلاً، وقال الضحاك: هلاكاً، فيقولون: واثبوراه هذا حينك وزمانك؛ لأنه لا منادم لهم غيره، وليس يحضر أحدً منهم سواه، قال البغوي: وفي الحديث «إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوراه وهم ينادون: يا ثبورهم حتى يقفوا على النار» فيقال لهم:
﴿لا تدعوا اليوم﴾ أي: أيها الكفار ﴿ثبوراً واحداً﴾ ؛ لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب العذاب والهلاك ﴿وادعوا ثبوراً كثيراً﴾ أي: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، أو ادعوا أدعية كثيرة، وقال الكلبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبه، ولما وصف تعالى: