نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة: وقوله تعالى: ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر﴾ أي: الآمرون بالإيمان والطاعة والناهون عن الشرك والمعصية ودخول الواو في والناهون عن المنكر للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة فكأنه قال: الجامعون بين الوصفين ولأنّ العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله تعالى: ﴿وثامنهم كلبهم﴾ (الكهف، ٢٢)
وقوله تعالى في صفة الجنة: ﴿وفتحت أبوابها﴾
(الزمر، ٢٢)
إيذاناً بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التامّ والثامن تعداد آخر معطوف عليه ولذلك تسمى واو الثمانية، وقيل: الموصون بهذه الصفات هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿التائبون﴾ إلى قوله: ﴿الساجدون﴾ مبتدأ خبره هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
الصفة التاسعة: قوله تعالى: ﴿والحافظون لحدود الله﴾ أي: لأحكامه بالعمل بها والمقصود أنّ تكاليف الله تعالى كثيرة وهي محصورة في نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالعبادات، والثاني: ما يتعلق بالمعاملات.
فإن قيل: ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر عقبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟ أجيب: بأنّ التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل، وأمّا البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء وأحكام الجنايات ودخل في هذه الصفة التاسعة رعاية أحوال القلوب بل البحث عنها، والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأنّ أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب.
ثم ذكر سبحانه وتعالى عقب هذه الصفات التسعة قوله تعالى: ﴿وبشر المؤمنين﴾ تنبيهاً على أن البشارة في قوله تعالى: ﴿فاستبشروا﴾ لم تتناول إلا المؤمنين الموصفين بهذه الصفات التسعة وحذف تعالى المبشر به للتعظيم فكأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
﴿ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى﴾ فقال سعيد بن المسيب عن أبيه إنه نزل في شأن أبي طالب وذلك أنّ النبيّ ﷺ جاء لعمه أبي طالب لما حضرته الوفاة فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية فقال: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل ﷺ يعرضها عليه ويعودان عليه إلى تلك المقالة حتى قال أبو طالب: آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال ﷺ «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك» فنزل ذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» قال: لولا يعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ (القصص، ٥٦)
الآية.
وقال بريدة لما قدم النبيّ ﷺ مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له يستغفر لها فنزل ﴿ما كان للنبيّ﴾
لغلبة عباده أو تحقيراً، فإن قيل: ما فائدة هذا السؤال مع أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه؟ أجيب: بأن هذا سؤال تقريع للمشركين كما قال لعيسى عليه السلام: ﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾ (المائدة، ١١٦)، وقرأ ابن عامر فنقول بالنون، والباقون بالياء، وقرأ أأنتم نافع وابن كثير بتسهيل الثانية وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية ولا ألف بينهما وبين الأولى ولورش وجه آخر وهو إبدال الثانية ألفاً، وهشام بتسهيل الثانية وتحقيقها مع الإدخال، والباقون بتحقيقهما، وقرأ هؤلاء أم هم نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة من أم ياء خالصة، والباقون بتحقيقها.
﴿قالوا سبحانك﴾ أي: تنزيهاً لك عما لا يليق بك، أو تعجباً مما قيل لهم؛ لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون فما أبعدهم عن الضلال الذي هو مختص بإبليس وجنوده، أو جمادات وهي لا تقدر على شيء، أو إشعاراً بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ ﴿ما كان ينبغي﴾ أي: يستقيم ﴿لنا أن نتخذ﴾ أي: نتكلف أن نأخذ باختيارنا بغير إرادة منك ﴿من دونك﴾ أي: غيرك ﴿من أولياء﴾ للعصمة أو لعدم القدرة، فكيف يستقيم لنا أن نأمر بعبادتنا؟ فإن قيل: ما فائدة أنتم وهم، وهلا قيل: أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟ أجيب: بأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده؛ لأنه لولا وجوده؛ لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
تنبيه: من أولياء مفعول أول، ومن زائدة لتأكيد النفي، وما قبله المفعول الثاني، ولما تضمن كلامهم أنا لم نضللهم ولم نحملهم على الضلال حسن الاستدراك بقولهم: ﴿ولكن متعتهم وآباءهم﴾ وهو أن ذكروا سببه أي: أنعمت عليهم وعلى آبائهم من قبلهم بأنواع النعم والصحة وطول العمر في الدنيا، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم عكس القضية ﴿حتى نسوا الذكر﴾ أي: تركوا الإيمان بالقرآن، وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه ﴿وكانوا﴾ أي: في علمك بما قضيت عليهم في الأزل ﴿قوماً بوراً﴾ أي: هلكى، وهو مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، أو جمع بائر كعائذ وعوذ، وقوله:
﴿فقد كذبوكم﴾ فيه التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام على حذف القول، والمعنى: فقد كذب المعبودون العابدين ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿تقولون﴾ أي: أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة، وأنهم يشفعون لكم وأنهم أضلوكم، ولما تسبب عن تخليهم عن عبدتهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر قال تعالى: ﴿فما يستطيعون﴾ أي: المعبودون ﴿صرفاً﴾ أي: لشيء من الأشياء عن أحد من الناس لا أنتم ولا غيركم من عذاب ولا غيره بوجه حيلة ولا شفاعة ولا معاداة ﴿ولا نصراً﴾ أي: منعاً لكم من الله تعالى إن أراد بكم سوءاً، وهذا نحو قوله تعالى: ﴿لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا﴾ (الإسراء، ٥٦)، وقرأ حفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة ﴿ومن يظلم﴾ أي: بالشرك ﴿منكم﴾ أي: أيها المكلفون ﴿نذقه﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿عذاباً كبيراً﴾ أي: شديداً في الدنيا بالقتل أو الأسر أو ضرب الجزية، وفي الآخرة بنار جهنم، روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: لما عير المشركون رسول الله ﷺ بقولهم: ﴿ما لهذا الرسول﴾ إلى آخرها أنزل الله تعالى:
﴿وما أرسلنا قبلك﴾ أي: يا أشرف الخلق أحداً {من