يسبق ذكره فيه. فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ﴿على قلبك﴾ يا محمد وقوله تعالى: ﴿بإذن الله﴾ أي: بأمره حال من فاعل نزل ﴿مصدقاً﴾ أي: موافقاً ﴿لما بين يديه﴾ لما قبله من الكتب ﴿وهدى﴾ من الضلالة ﴿وبشرى﴾ بالجنة ﴿للمؤمنين﴾ هذه أحوال من مفعول نزل وجواب الشرط فإنه نزله والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياك لنزوله عليك بالوحي؛ لأنه نزل كتاباً مصدّقاً للكتب المتقدّمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وقيل: الجواب محذوف مثل فليمت غيظاً أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّ له كما قال تعالى:
﴿من كان عدوّاً وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ للكافرين﴾ والمراد بمعاداة الله مخالفته عناداً أو معاداة المقرّبين من عباده وصدر الكلام بذكره تعالى تفخيماً لشأنهم كقوله تعالى: ﴿وا ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة، ٦٢).
فإن قيل: لم أفرد الملكين بالذكر مع دخولهما في الملائكة؟ أجيب: بأنّ ذلك لفضلهما، فكأنهما من جنس آخر وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات وبأن المحاجة كانت فيهما والواو فيها بمعنى أو يعني من كان عدوّاً لأحد هؤلاء؛ لأنّ الكافر بالواحد كافر بالكل، وقدم جبريل لشرفه، وقدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع؛ لأنّ عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب، قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همز ولا ياء بين الألف واللام وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة والباقون بهمزة بعد الألف وياء وهم على مراتبهم في المدّ. ونزل في ابن صوريا لما «قال للنبيّ ﷺ ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية أي زائدة فنتبعك».
﴿ولقد أنزلنا إليك﴾ يا محمد ﴿آيات بينات﴾ واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام ﴿وما يكفر بها إلا الفاسقون﴾ أي: المتمرّدون من الكفرة والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظميته كأنه متجاوز عن حدّه.
﴿أو كلما عاهدوا عهداً﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهداً على الإيمان بالنبيّ أو إن خرج النبيّ أن لا يعاونوا عليه المشركين وقوله تعالى ﴿نبذه﴾ أي: طرحه ﴿فريق منهم﴾ أي: اليهود بنقضه جواب كلما وهو محل الاستفهام الانكاري وإنما قال فريق؛ لأنّ بعضهم لم ينقض وقوله تعالى: ﴿بل﴾ للانتقال ﴿أكثرهم لا يؤمنون﴾ ردّ لِما يتوهم أنّ الفريق هم الأقلون.
وقوله تعالى:
﴿ولما جاءهم رسول من عند الله﴾ هو محمد ﷺ ﴿مصدّق لما معهم﴾ من التوراة ﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله﴾ أي: التوراة؛ لأنّ كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدّقه ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل: كتاب الله هو القرآن نبذوه بعدما ألزمهم تلقيه بالقبول وقوله تعالى: ﴿وراء ظهورهم﴾ أي: لم يعملوا بما فيها من الآيات بالرسل وغيره مًثل لإعراضهم عنه بالكلية بالاعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه ﴿كأنهم لا يعلمون﴾ ما فيها من أنه نبيّ حق أو فيه شك يعني أنّ علمهم بذلك رصين ولكنهم كابروا وعاندوا. وعن سفيان
في الحلق والشهيق في الصدر، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم ﴿خالدين فيها﴾ وقوله تعالى: ﴿ما دامت السموات والأرض﴾ فيه وجهان: أحدهما: سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى: ﴿يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات﴾ (إبراهيم، ٤٨). وقوله تعالى: ﴿وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء﴾ (الزمر، ٧٤)، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني: أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا ﴿إلاّ﴾، أي: غير ﴿ما شاء ربك﴾ من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبداً ﴿إن ربك فعال لما يريد﴾ من غير اعتراض.
﴿وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك﴾ كما تقدّم، ودل عليه قوله تعالى: ﴿عطاء غير مجذوذ﴾، أي: مقطوع، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء،. لما روي عن جابر أنه ﷺ قال: «يخرج قوم من النار بالشفاعة»، وفي رواية: «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة». وفي رواية أنه ﷺ قال: «ليصيبن قوماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة» وفي رواية أنه ﷺ قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ﷺ فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد»، أي: من أهل الكبائر من أمّة محمد ﷺ بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى: ﴿فمنهم شقيّ وسعيد﴾ تقسيماً صحيحاً؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي، أو مانع من الجميع من الجنة والنار، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة
وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل: معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء: هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.
وقال أهل المعاني: هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون: لا آتيك ما دامت السموات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبداً. وقيل: إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً،
نتلو محذوفاً دلت عليه صفته وهي من نبأ موسى، تقديره نتلو عليك شيئاً من نبأ موسى، ويجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى، وبالحق يجوز أن يكون حالاً من فاعل نتلو ومن مفعوله أي: نتلو عليك بعض خبرهما ملتبسين أو ملتبساً بالحق، ثم نبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولي الإذعان بقوله تعالى: ﴿لقوم يؤمنون﴾ فغيرهم لا ينتفع بذلك ولما كان كأنه قيل ما المقصود من هذا قال.
﴿إنّ فرعون﴾ ملك مصر الذي ادّعى الإلهية ﴿علا﴾ أي: بادعاء الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم ﴿في الأرض﴾ أي: أرض مصر وإطلاقها يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض لاشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها ﴿وجعل﴾ أي: بما جعلنا له من نفوذ الكلمة ﴿أهلها﴾ أي: أهل الأرض المرادة ﴿شيعاً﴾ أي: فرقاً تتبع كل فرقة شيئاً يتبعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يكون عتيقه، أو أصنافاً في استخدامه يسخر صنفاً في بناء، وصنفاً في حفر، وصنفاً في حرث، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء وهم بنو إسرائيل والقبط.
وقوله تعالى ﴿يستضعف طائفة منهم﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه أن يكون حالاً من فاعل جعل أي: جعلهم كذلك حالة كونه مستضعفاً طائفة منهم، وأن يكون صفة لشيعاً وأن يكون استئنافاً بياناً لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم وهو يوسف عليه السلام وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده ومع ذلك كافؤوه في أولاده وأولاد أخوته بأن استعبدوهم ثم ما كفاهم ذلك حتى ساؤهم على يدي العنيد سوء العذاب، قال البقاعي: وهذا حال الغرباء بينهم قديماً وحديثاً ثم بين الاستضعاف بقوله تعالى ﴿يذبح أبناءهم﴾ أي: عند الولادة وكَّل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه وسبب ذلك أن كاهناً قال له سيولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم، وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة وكان ذلك من غاية حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل ﴿ويستحيي نساءهم﴾ أي: يريد حياة الإناث فلا يذبحهنّ، وقال السدي: إنّ فرعون رأى في منامه ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يديه فأمر بقتل الذكور، وقيل: إنّ الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه فسمع فرعون ذلك فأمر بذبح بني إسرائيل.
﴿إنه﴾ أي: فرعون ﴿كان من المفسدين﴾ فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد، قال وهب: ذبح فرعون في طلب موسى سبعين ألفاً من بني إسرائيل وقوله تعالى:
﴿ونريد أن نمن﴾ عطف على قوله: ﴿إنّ فرعون علا في الأرض﴾ لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون وقصصاً له، ونريد حكاية حال ماضية أي: نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً أن نمن به ﴿على الذين استضعفوا﴾ أي: حصل استضعافهم وأهانهم بهذا الفعل الشنيع ولم يراقب فيهم مولاهم ﴿في الأرض﴾ أي: أرض مصر
ومعناه العلم عندي كما يكون في الكتاب فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ. وقوله تعالى:
﴿بل كذبوا بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي لا أثبت منه إضراب ثان قال الزمخشري: إضراب أتبع للإضراب الأوّل للدّلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحقّ ﴿لما﴾ أي: حين ﴿جاءهم﴾ أي: لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس حسداً منهم من غير تأمّل لما قالوه ولا تدبر ولا نظر فيه ولا تذكر فلذلك قالوا ما لا يعقل من أنّ من قدر على إيجاد شيء من العدم وابدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه له ﴿فهم﴾ أي: لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف ﴿في أمر مريج﴾ أي: مضطرب جدّاً مختلط من المرج الذي هو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة فهم تارة يقولون سحر وتارة كهانة وتارة شعر وتارة كذب وتارة غير ذلك، لا يثبتون على شيء واحد. والاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على الإبطال كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقية قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم.
ثم ذكر تعالى الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد بقوله تعالى:
﴿أفلم ينظروا﴾ أي: بعين البصر والبصيرة ﴿إلى السماء﴾ أي: المحيطة بهم ﴿فوقهم﴾ فإن غيرها إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل ﴿كيف بنيناها﴾ أي: أوجدناها على مالنا من المجد والعز مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد ﴿وزيناها﴾ أي بما فيها من الكواكب الكبار والصغار السيارة والثابتة ﴿وما﴾ أي: والحال أن ما ﴿لها﴾ وأكد النفي بقوله تعالى: ﴿من فروج﴾ أي: فتوق وطاقات وشقوق بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء.H
﴿والأرض﴾ أي: المحيطة بهم التي هم عليها ﴿مددناها﴾ أي: بسطناها بما لنا من العظمة ﴿وألقينا﴾ أي: بعظمتنا ﴿فيها رواسي﴾ أي جبالاً ثوابت كانت سبباً لثباتها وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق والمراسي التي تعالجونها أنتم من تحت ﴿وأنبتنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ أي الأرض وعظم قدرته بالتبعيض فقال تعالى: ﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات تزاوجت أشكاله ﴿بهيجٍ﴾ أي هي في غاية الرونق والإعجاب فكان مع كونه رزقاً منتزهاً.
﴿تبصرةً﴾ أي: جعلنا هذه الأشياء كلها لأجل أن تنظروا بأبصاركم وتتفكروا ببصائركم فتعبروا منها إلى صانعها فتعلموا ما له من العظمة ﴿وذكرى﴾ أي: ولتذكروا بها تذكراً عظيماً بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أنّ صانعها لا يعجزه شيء وأنه محيط بجميع صفات الكمال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بالإمالة محضة. وقرأ ورش: بالإمالة بين بين والباقون بالفتح.
تنبيه: قال الرازي: يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى السماء والأرض أي خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل على ذلك أنّ السماء وزينتها غير مستجدّة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان. وأمّا الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفها فتذكر فالسماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك.
والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أنّ فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجدّدة مذكرة عند التناسي ﴿لكل عبدٍ﴾ أي: