تستعمل في كل منهما ﴿أن ينزل عليكم من خير من ربكم﴾ فسر الخير بالوحي والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم من شيء منه وفسر بالعلم والنصرة والمراد به ما يعمّ ذلك كما قاله البيضاويّ: ومن الأولى مزيدة للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية ﴿وا يختص برحمته﴾ أي: بنبوّته كما قاله عليّ رضي الله تعالى عنه ومجاهد، أو بالإسلام كما قاله ابن عباس ومقاتل ﴿من يشاء﴾ ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ولا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق ﴿وا ذو الفضل﴾ وهو ابتداء إحسانه بلا علة وقوله تعالى: ﴿العظيم﴾ فيه إشعار بأن إتيان النبوّة والاسلام من الفضل العظيم ويدل للأوّل قوله تعالى: ﴿إنّ فضله كان عليك كبيراً﴾ (الإسراء، ٨٧). ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً كما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر﴾ (النحل، ١٠١).
﴿ما ننسخ من آية﴾ فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية والنسخ في اللغة شيئان، أحدهما: بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحوّل من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ؛ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ، والثاني: بمعنى الرفع يقال: نسخت الشمس الظل أي: ذهبت به وأبطلته فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية وهذا على وجوه:
أحدها: أن تثبت التلاوة وينسخ الحكم كآية الوصية للأقارب وآية عدّة الوفاة بالحول، والثاني: أن ترفع التلاوة ويبقى الحكم كآية الرحم والثالث: أن يرفع الحكم والتلاوة كما روي: أنّ قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبيّ ﷺ فأخبروه فقال ﷺ «تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها» وقيل: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه كما أنّ القِبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث، وعدّة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ومصابرة الواحد للعشرة بمصابرته للاثنين. قال البغويّ: والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الإخبار اه.
والنسخ اصطلاحاً رفع تعلق حكم شرعيّ بدليل شرعيّ ويفارق التخصيص بأنّ التخصيص لا يرد إلا على متعدّد وبأنه غير مشروط بالنص بخلاف النسخ فيهما وبأنه يفيد عدم إرادة المخرج في الأصل والنسخ يفيد إرادة المنسوخ في الأصل لكن غير مستمرّ.
وقرأ ابن عامر: ننسخ بضمّ النون الأولى وكسر السين من أنسخ أي: نأمرك أو جبريل بنسخها والباقون بفتح النون والسين وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية ﴿أو فنسأها﴾ أي: نؤخرها فلا نزل حكمها ولا نرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون الأولى وفتح السين وهمزة ساكنة بعد السين ولم يبدل هذه الهمزة أحد من السبعة وقرأ الباقون بضم النون وكسر السين ولا همزة بعد السين أي: ننسها أي: نمحها من قلبك، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه نتركها لا ننسخها قال الله تعالى: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ (التوبة، ٦٧) أي: تركوه فتركهم وجواب الشرط ﴿نأت بخير منها﴾ أي: بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم وإن كان
وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ ﷺ في بعث فقالت: بعني بدرهم تمراً. قال: فأعجبتني فقلت: إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت عمراً فذكرت له ذلك فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت النبيّ ﷺ فذكرت ذلك له فقال: «أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله ﷺ طويلاً حتى أوحي إليه: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ذلك ذكرى للذاكرين﴾، أي: عظة للمتقين. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليّ رسول الله ﷺ فقال أصحاب رسول الله ﷺ ألهذا خاصة أم للناس عامّة؟ قال: «بل للناس عامّة». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ ﷺ فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل: يا رسول الله، ألهذا خاصة؟ فقال: «بل للناس كافة». وعن معاذ بن جبل قال: أتى النبيّ ﷺ رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره النبيّ ﷺ أن يتوضأ ويصلي، فقال معاذ بن جبل فقلت: يا
رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة؟ قال: «بل للمؤمنين عامّة». قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الأوّل: الإقلاع عن الذنب بالكلية، الثاني: الندم على فعله، الثالث: العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى ﴿ذلك ذكرى﴾ إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى: ﴿فاستقم كما أمرت﴾ إلى ههنا. وقيل: هو إشارة إلى القرآن. وقوله تعالى:
﴿واصبر﴾ خطاب للنبيّ ﷺ أي: واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهافإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾، أي: أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أنّ الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص. ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران، السبب الأوّل: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى:
﴿فلولا﴾، أي: فهلا ﴿كان من القرون﴾، أي: من الأمم الماضية ﴿من قبلكم أولو بقية﴾، أي: أصحاب رأي وخير وفضل ﴿ينهون عن الفساد في الأرض﴾ وسمي الفضل والجود بقية؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة:
*إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم
واحد كالعدم والعدم، ثم بين تعالى أنّ هذا الفعل لا يفعله إلا أحمق مقهور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب بقوله تعالى: ﴿إنّ فرعون وهامان﴾ وزيره ﴿وجنودهما﴾ أي: كلهم على طبع واحد ﴿كانوا خاطئين﴾ أي: في كل شيء فلا بدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بما ربى عدوّهم على أيديهم.
وقال وهب: لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء عليهم السلام وكانت أماً للمساكين ترحمهم وتتصدّق عليهم وهي المذكورة في قوله تعالى:
﴿وقالت امرأت فرعون﴾ أي: له وهي قاعدة لجنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الولدان لهذه السنة فدعه ﴿قرّة عين لي﴾ أي: به ﴿ولك﴾ أي: يا فرعون لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، وروي أنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل، ولما أثبتت له أنه ممن تقرّ به العيون قالت ﴿لا تقتلوه﴾ أي: لا أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك واستأنفت بقولها ﴿عسى أن ينفعنا﴾ ولو كان له أبوان معروفان فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رأت من النور بين عينيه وارتضاعه من إبهامه لبناً وبرئه البرصاء بريقه ﴿أو نتخذه ولداً﴾ أي: إذا كان لم يعرف له أبوان فيكون نفعه أكثر فإنه أهل لأن تتشرّف به الملوك.
تنبيه: التاء في قرّة عين مجرورة، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء وهي خبر مبتدأ مضمر أي: هو قرّة عين، والعامّة من القراء والمفسرين وأهل العلم على ذلك.
ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس أنه وقف على لا، أي: هو قرّة عين لي فقط ولك لا أي: ليس هو لك قرّة عين ثم يبتدئ بقوله تقتلوه، وقال ابن عادل: وهذا لا ينبغي أن يصح عنه وكيف يبقى تقتلوه من غير نون رفع ولا مقتض لحذفها فلذلك قال الفراء: هو لحن.
وقوله تعالى ﴿وهم لا يشعرون﴾ جملة حالية من كلام الله تعالى أي: لا شعور لهم أصلاً لأنّ من لا يكون له علم إلا باكتساب فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدّية إلى هلاك المفسدين، وقيل: إنّ ذلك من كلام امرأة فرعون كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله قالت له افعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه، قال الكلبي ولما أخبر الله تعالى عن حال من لقيه أخبر عن حال من فارقه بقوله تعالى:
﴿وأصبح﴾ أي: عقب الليلة التي حصل فيها فراقه ﴿فؤاد أمّ موسى﴾ أي: قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً، واختلف في معنى قوله ﴿فارغاً﴾ فقال أكثر المفسرين: خالياً من كل همّ إلا من همّ موسى عليه السلام، وقال الحسن: أي: ناسياً للوحي الذي أوحاه الله تعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين فجاءها الشيطان وقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيتيه في البحر وأغرقتيه.
وقال الزمخشري: أي: صفراً من العقل والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما
مسافة ﴿من حبل الوريد﴾ لأنّ أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علم الله تعالى شيء والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها متصلان من الرأس إلى الوتين وهو عرق متصل بالقلب إذا قطع مات صاحبه. وهذا مثل في فرط القرب وإضافته مثل مسجد الجامع أي حبل العرق الوريد أو لأن الحبل أعمّ فأضيف للبيان نحو بئر ساقية أو يراد حبل العاتق وأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما ما في عضو واحد. وقال البغوي: حبل الوريد: عرق الفرق وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين يتفرّق في البدن والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. قال القشيري: وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم وروح وأنس وسكون قلب لقوم. وقوله تعالى:
﴿إذ يتلقى﴾ ظرف لأقرب ويجوز أن يكون منصوباً باذكر أي واذكر إذ يتلقى أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود ﴿المتلقيان﴾ أي: الملكان الموكلان بعمل الإنسان ومنطقه يحفظانه ويكتبانه حال كونهما ﴿عن اليمين﴾ لكل إنسان ﴿وعن الشمال﴾ أي: أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وقوله تعالى: ﴿قعيد﴾ أي: قاعدان. مبتدأ وخبره ما قبله لأنّ فعيلاً يطلق على الواحد والمتعدّد كقوله تعالى: ﴿بعد ذلك ظهير﴾ (التحريم: ٤)
قال ابن عادل: والأجود أن يدع حذف إما من الأوّل أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأوّل ومثله قوله:

*رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطويّ رماني*
وقال مجاهد: القعيد المرصد. ونحن أعلم منهما وأقرب وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم.
﴿ما يلفظ﴾ أي: يرمي ويخرج المكلف من فيه وعمم في النفي بقوله تعالى ﴿من قول﴾ جل أو قل ﴿إلا لديه﴾ أي: الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة من أغرب المستغرب ﴿رقيب﴾ من حفظتنا شديد المراعاة في كل من أحواله ﴿عتيد﴾ أي: حاضر مراقب غير غافل بوجه قال الجلال المحلي: وكل منهما بمعنى المثنى أي رقيبان عتيدان. روى أبو أمامة أن رسول الله ﷺ قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».
تنبيه: اختلف فيما يكتبان فقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر أو يوزر فيه.
فائدتان: إحداهما: قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند حالتين عند غائطه وعند جماعه.
الثانية: قال الضحاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك ومثله عن الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته
﴿وجاءت﴾ أي: أتت وحضرت ﴿سكرة الموت﴾ أي: حالته عند النزع وشدّته وغمرته يصير المريض بها السكران لا يعي وتخرج بها أقواله وأفعاله عن قانون الاعتدال مجيئاً ملتبساً بالحق أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه. وقيل: للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال ﴿ذلك﴾ أي: هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجهد ﴿ما﴾ أي: الأمر الذي ﴿كنت﴾ أي: جبلةً


الصفحة التالية
Icon